بينما
كانت صور الشهداء تتوالى من كل مكان ....بدءا بفلسطين الجريحة مرورا بالعراق
الكسير وليس انتهاء بأفغانستان المنسية، بل إن قناة الجزيرة الإخبارية راحت تنقل
أخبار قتلى حوادث السير والقطارات في شرق آسيا ,ثم تهديدات بشن حروب في المنطقة
يطلقها قادة سياسيون كبار ..ثم إن كوكبنا مهدد بالاحتباس الحراري ناهيك عما حل
بثقب الأوزون ....وغير بعيد من ذلك النسق فإن منظمة الصحة العالمية تحذر من
تهديدات حقيقية للبشر بسبب إنفلوانزا الطيور ...مجموعة من الأخبار تجعلك تشعر بأن
العالم في طريقه إلى الدمار والهلاك ...مما دفعني إلى أن أحول عن قناة الجزيرة
الإخبارية بحثا عن تلك القنوات الفضائية الهادئة..وقعت عيني على قناة
"اقرأ" واستقر بي المقام هناك...عنوان جميل لفت نظري قبل أن يشد انتباهي
نشرة إخبارية عنوانها "الدنيا بخير" جذبتني تلك العبارة الناعمة إليها
وأنا القادم من نشرات إخبارية متوالية وأكيد أنها لا توحي بأن الدنيا بخير...فصرت
أبعد من ذهني صور القتلى والدمار وأستبدلها بصور الحياة والعافية، عناوين هذه
الأخبار تختلف تماما عما عهدناه في حصاد اليوم مثلا ...أخبار تحاول أن تبتعد عن
مناطق الصراع وعن السياسة وتقلباتها وتذهب بعيدا لتحكي قصص نجاح وقصص حياة تبشر
بالأمل والخير والعافية وحتى طريقة تقديم النشرة تختلف فبينما يظهر مقدم النشرة في
قناة الجزيرة بصوت مرتفع ممتزجا بصوت سيارات الإسعاف.. يحكي عن عشرات الجرحى
والقتلى يظهر مقدم نشرة " الدنيا بخير" مبتسما وهادئا بادئا النشرة
باكتشاف علاج جديد لمرض مزمن، وما إن تتوالى تلك الأنباء السارة حتى تشعر بالاسترخاء
وبأن الدنيا فعلا بخير، لكن صور القتلى تلك تأبى إلا أن توقفني لأسأل نفسي هل هذا
فعلا هو واقعنا، أليس في هذا الجيل الجديد من الأخبار تجاهل لواقع الصراع و لآلام
الشعوب. أليس إعلاما متحيزا للعافية على حساب عناصر أخرى؟على أن تلك "العافية
الإعلامية" لا تأخذ ذلك الشكل فقط فقد تأخذ شحنة سياسية وتوجها رسميا وذلك ما
يمكن ملاحظته بقوة في الإعلام الرسمي لدولنا العربية، ففي موريتانيا مثلا وبالذات
في فترة ولد الطايع كان الإعلام الرسمي يظهر للمواطنين أن أمور البلد بخير وعافية
وأنه سائر في طريق التنمية، وأن الدنيا قد استدارت على شخص الرئيس، ففي هذا اليوم
أعطى الأوامر بتدشين مشروع كذا ... وغدا أنتم على موعد مع حفل التدشين، وبعد ذلك
لا تنسوا أن تشاهدوا معنا كيف أثر ذلك المشروع في المواطن، وفي حياته..هكذا إذا
تتشكل في ذهن المتلقي صور وهمية، توحي بالعافية والنماء في حين أن الواقع عكس ذلك
بكثير.لا يمكن في اعتقادي أن نبقى في دائرة إعلام "العافية" سواء كانت
عافية حقيقية تحاول بعض المؤسسات الإعلامية إظهارها والتركيز عليها كردة فعل تجاه
إعلام ينزف دما... أو كانت عافية مفترضة تم نسجها لتدجين المواطن وإلهائه، وذلك
لإضفاء نجاحات وهمية على برامج وخطط حكوماتنا العربية، وذلك ببساطة لأن هذا النوع
من الإعلام يتجاهل الواقع ويقفز عليه ويتحيز لعناصر العافية والخير على حساب عناصر
أخرى ... وهو أيضا إعلام يتجاهل حقيقة الحياة فليست الحياة حياة عافية فقط، بل هي
قائمة في الأصل على صرا عات وعلى تنافس. صحيح أنه قد يتجلى ذلك الصراع في شكل ناعم
ولين أحيانا، ولكنه قد يكون أيضا خشنا إلى حد إسالة الدماء، ولعل هذا التجلي
الأخير قد يكون أكثر حضورا من الأول على الأقل في عالمنا الإسلامي.ثم إنه لا يمكن
بحال من الأحوال أن تظل نشرات الأخبار ..نشرات الموت والدمار بل ينبغي أن يحصل
هناك تنوع فتكون هناك نشرات علمية وأخرى ثقافية، على غرار نشرات الرياضة
والاقتصاد، وما المانع من تخصيص فقرة من " النشرة " للأخبار السارة وهنا
أقترح على قناة الجزيرة مثلا أن تستبدل فقرة " ضيف المنتصف" بمثل هذا
النوع من الأخبار لعلها تساهم في إعطاء صورة حقيقية عن الواقع بكل تجلياته، فذلك
أقرب للصواب، وهو أيضا وجه من أوجه الصراع يمكن أن تقرأ فيه معاني لا يتوقع البعض
أن تحملها مثل تلك الأنباء وسأضرب لذلك مثلا: أذكر مرة حين كنت أشاهد قناة الأقصى
الفضائية، وغزة في عز الحصار إذا بخبر أو فقرة تنقل حفل زفاف جماعي لعشرات من
الشباب "الغزاوي" وقد عم الفرح المكان، لقد قرأت في ذلك الخبر مؤشرات
النصر كما كنت أقرؤها في العمليات الاستشهادية، إن قدرة "الغزاويين" على
الحياة بكل تجلياتها رغم صعوبة الظروف وقساوتها، لهو مؤشر صادق وقوي على مستقبل من
النصر إن شاء الله... وإن أخذ ذلك المؤشر طابع العافية، نفس الاستنتاج يحضرني وأنا
أتابع مثلا نفس القناة وهي تنقل وقائع حفل تكريم عشرات الشباب والفتيات المتفوقين
في الجامعات من مختلف التخصصات، وقد أدت هذه "الأخبار الناعمة"، ما
تؤديه الأخبار الأخرى، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه والاهتمام به، صحيح أنه قد
ينزف إعلامنا دما لتقرأ فيه الشعوب معاني الدم وإيحاءاته، ولكنه أيضا قد يتجلى
عافية تحمل في جوهرها كل إيحاءات الدم الإيجابية، فهل يستطيع إعلامنا أن يمزج بين
تلك الأبعاد والتجليات وهل يستطيع المتلقي أن يفهم وبنفس المستوى تلك المعاني
الإيجابية، سواء جاءت على شكل قطرات من الدم أو نسمات من العافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق