الأحد، 22 يناير 2006

في خيّام الفقراء

بدت السماء وكأنها قريبة من الأرض وأخذ لونها يزداد احمرارا؛ كأن قطعة من تلك الأرض الداكنة علقت بها.
بدا وكأن "الخيمة" التى نصبتها للتو"خديجة"على موعد مع شيئ ما ...لحظات وصمت رهيب يلف المكان وتبدأ الأتربة في التطاير باتجاهات مختلفة، وتقبل الرّياح الحمراء بقوة من كل اتجاه، يختفي ضوء الشمس ولون السماء، ويختلط عصف الرياح بصياح الحيوانات وصراخ الأطفال؛ إنها ألحان العاصفة فوق خيام الفقراء، يبدأ الظلام الكثيف يلف المكان وكأنه لم تبق هناك ذرة من ضوء إلا وهزمتها ذرتان من الظلام، ويستمر أزيز الرياح فتتطاير الأواني وقطع الثياب هنا وهناك وتنهمر الأمطار فتزيد من قوة العاصفة التي تقتلع "الخيمة" بحبالها فترميها عدة أمتار، فينكشف الغطاء عن خديجة وأطفالها ليبقوا في تواصل مباشر مع السماء المضطربة تلك الليلة.
 تتوالى الرعود بكثافة وكأن السماء تهتز معها، ويأخذ البرق من شرقها إلى غربها فيضيء المكان في ثوان على أم تحتضن بأجنحتها الحانية أبنائها، وكأن تلك الأجنحة تريد أن تمتدّ بالدعاء إلى ربّ السماء ليحفظ الأبناء .. وكلما ازداد وقع الأمطار والرياح. تنهال الخواطر على الأم .. فقد ذهب الزوج منذ الصباح الباكر بحثا عن بقرة ضلت من القطيع؛ وكأني به الآن يقدم رجليه المتعبتين كلما لاح له برق من السماء ثم يقف ساكنا إذا أظلم المكان... ولا شك أنه في لحظات الظلام تلك يفكر في أبنائه وزوجته، تلك الزوجة التي نام الأطفال بين ذراعيها وفى حضنها وهي جالسة صابرة ....حتى بدأ وقع العاصفة يخف وأخذت الأمطار في التباطؤ وهي في طريقها إلى التوقف...أخذت الأم المنهكة تتفقد جيرانها في تلك الليلة التي بدا فيها كل شيء مبللا حتى الهواء ،وهي تخترق بشمعتها المتواضعة حجب الظلام الكثيف لتضيء لها على خيام متناثرة وأشياء مبعثرة ونساء ورجال هنا وهناك كأنما هم قوم يتهيؤون للحياة من جديد،وأغراض متناثرة هنا وهناك لا يوازيها في الكثرة إلا عبارات الحمد والرضا المبثوثة على الألسن، كأن تلك العاصفة الشديدة لم تكن إلا مطرا مباركا ينتفع به العباد... وبينما خديجة تتفقد الجيران لا يسبقها إليهم إلا ضوء شمعتها إذ بها أمام بضعة أطفال ينامون متلاصقي الأذرع بجانب أمهم المريضة، تلك الأم الرحيمة التي أخذت من ثوبها وغطت به على اولئك الأطفال الأيتام فقد غادر أبوهم هذه الدنيا منذ سنين...وهاهي أمهم المريضة طريحة الفراش بجنبهم تصارع المرض...ذلك المرض الذي لم يمنعها من أن تلقى من غطائها على الأطفال النائمين... لم تستطيع خديجة أن تصبر أمام المشهد فأخذت الأطفال الأيتام إلى خيمتها وأخرجت لهم ما جف من الأغطية وفرشتها لهم مع أطفالها فبدا منظر الجميع رائعا ...أولئك الأطفال المبتسمون يشعرون العالم أن عواصف الدنيا لا تمنع الفقراء البسطاء أن يبتسموا ويناموا مطمئنين.
أخذت خديجة تهيئ بعض الطعام وتناوله الأطفال جميعا لا تفرق بينهم ...لم يكن لها من شعور في تلك اللحظات إلا أنها ولدت أولئك الأطفال جميعا ...وما إن فرغت من ذلك حتى لاح لها طيف زوجها مقبلا بخطى متثاقلة وبثياب مبللة وهو يلقي بتحية من حروف متقطعة : السلام عليكم كأنما هي آخر حروف ينطقها في تلك الليلة لشدة التعب ، فردت الزوجة بتحية مشحونة بالحيوية ثم قالت له: الحمد لله وأخذت تكررها فكانت تلك الكلمة الراضية كأنها تحط التعب والهموم من على كاهل الزوج المرهق وتحول المكان المظلم المبلل إلى نور وهناء ... ثم يواصل الزوج المنهك حديثه المتقطع :مابال هؤلاء الأطفال ؟هل جاؤوا مع العاصفة يا خديجة؟! لا يازوجي العزيز بل هم من مخلفاتها ...هؤلاء أطفال جارتنا"زينب" لم أقدر وأنا أتفقد الجيران أن أتركهم للجوع والبرد بجانب أمهم المريضة التي لاتملك لهم في هذه الليلة طعاما ولا غطاء يحميهم البرد ...اللهم إلا لمسات حنان صاحبتها عاجزة عن الجلوس...لقد وزعت الطعام رغم قلته وبدا كثيرا وزعته بين أطفالها وأطفالنا...عفوا بل بين أطفالنا لقد حل حرف النون محل حرف الهاء ...ساعة رأيتهم ...وهاهم كما ترى ينامون جميعا على فراش واحد تحت غطاء واحد ورغم البرد والجوع فقد لاح الرضا على وجوههم البريئة، وكأن تلك الوجوه الناعمة تقول:لامعنى في هذه الحياة لأن يشبع أطفال ويجوع آخرون ، لا معنى لأن لا نشترك في المعاناة ونعيشها معا بأعز ما نملك... بأطفالنا ...هنا يرسل الزوج آخر عباراته في تلك الليلة الليلاء وهو جالس على فراش رث يتوضأ قبل أن يخلد إلى النوم : ما أعظمك يا خديجة، لوكانت نساء الدنيا مثلك لرحل الفقر والجوع عن هذه الأرض، يانساء العالم أنصتوا وكونوا قلوبا لا تعرف إلا الرحمة والحنان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق