الأربعاء، 3 يناير 2018

قراءة في رواية الحدقي


رواية الحدَقي في خضمّ البحر.

على متن سفينة "العوّام" قافلا من غينيا بيساو إلى انواذيب، في طريق بحري مضطرب، كانت رواية الحدقي رفيقا لي.
الحدقي رواية تاريخية للكاتب الموريتاني أحمد فال بن الدين صدرت قبل أيام، تحكي طرفا من حياة الأديب العربي الكبير أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ.
أهداني الأخ والصّديق العزيز Mohamed Abdallahi Lehbib (ديدي) الرّواية على صيغة pdf، ومع أني كنت أُفضل قراءتها ورقيا، إلا أن التّشويق الذي قدّم به الأخ ديدي للرّواية في مقال على موقع الجزيرة نت، وكذا الملل والرّتابة اللتان تغلبان على راكب البحر، نتيجة الفقر الكبير في التنوع؛ فلا شيء على ظهر السفينة ستراه في الاتجاهات الأربع سوى زرقة السماء والماء! كل ذلك دفعني لأن أبدأ القراءة فورا، مع تسجيل بعض الملاحظات والانطباعات الأولية؛
الرواية في أغلبها، رواية كثيفة متراقصة الأحداث، تسير في تناسق ذكيّ بين خطّين زمنيين متباعدين جدّا، لكن الكاتب استطاع إيجاد وحدة موضوعية طوت فارق الزمان والمكان بين شخصية الجاحظ في القرنين الثاني والثالث الهجريين، متنقلا بين البصرة وبغداد، ومحمد القروي في القرن الحادي والعشرين الميلادي في قناة العروبة بالدّوحة.
كما نجح الكاتب في اختيار الأسلوب السّردي المناسب لكل فترة؛ ففي يوميات محمد القروي في قناة العروبة، تحسّ حركية الزمن وسرعته في قاعة الأخبار، فهذه مقدمة أخبار تركض، وذاك منتج أخبار يقفز... بينما تشعر بالزمن وكأنه يتمدد في يوميات الجاحظ.
لقد وُفّق الكاتب أيضا، بمستوى كبير، في المُزامنة السّردية بين القصتين، مما يجعل القارئ أحيانا يشعر بأن للرّواية بطلا واحدا وروحا واحدة تسري في مجمل النص، وهذا اختبار صعب في الروايات التي تُحاول التحكم في خطّين زمنيين متباعدين جدا، وهو نمط من الروايات آخذ في الحضور، نجحت فيه بشكل كبير الرّواية البديعة "قواعد العشق الأربعون" ولعل الحدقي نحت ذلك النحو.
تبدأ قصة محمد القروي من غرفة الأخبار في قناة العروبة بالدوحة مدققا لغويا، يدفع به تعصّبه للغة العربية وحساسيته الشديدة من الأخطاء، وما جلبه عليه ذلك من معارك مع زملائه في العمل، إلى أن يستقرَّ به الأمر على مشروع كتابة رواية عن الجاحظ، وهو العمل الذي يجد فيها راحته وذاته المهنية "اكتب ياعم ففي عالم الجاحظ لن يشْغَب عليك أحد" لكن غرفة الأخبار ستُورّطه في قصة حبّ غريبة، مع فتاة سعودية تعمل في أمن المعلومات بالقسم التقني في القناة، أو من يُسميهم الكاتب في إبداع طريف "النفّاثات في العقد".
حصة أو "مطوعة بريدة" هي فتاة سعودية "وجهها طويل قليل اللحم، عيناها عميقتان وشفتاها مُحايدتان، مع قامة مربوعة أقرب للقصر، وجسم يشي الجينز الضاغط له بأن لاشيء فيه يدعو للأهمية أو ليّ الأعناق، أورثها الجو الدّيني المكثف في منطقتها بالسعودية ضيقا شديدا بالمتدينين، وفهما خاصا للإسلام؛ فهي تسخر من المتدينين لكنها تخشى من العين خشية مجنونة، تدعو إلى الليبرالية الاجتماعية لكنها ضد الحرية السياسية، تنتقد الحركات الإسلامية السياسية لكنها تدافع عن المدرسة الوهابية بعقلية بدوي يطلب ثأر أبيه" هي باختصار "حنبلية في مسلاخ ليبرالية وقبَليّة في لحاف مواطنة"
ولأن محمد القروي "يضيق بالفتاة الباهتة العادية التي تخلو حياتها من تعرجات أو نتوءات، ويبحث عن فتاة تفاجئه طول الطريق حتى ولو كانت مفاجآت سلبية" تمكن منه حُبّها، كما أحَبّته هي أيضا، رغم غرابة شخصيته بالنسبة لها، لقد "كان من أكثر ماجذبها إليه تدينه المخالف للتدين الذي عرفته، فعندما رأته أول مرة لم تتوقع تدينه، لكنها مع طول الصّحبة هَجَمتْ منه على خصائص غريبة، فقد اكتشفت استحالة التواصل معه ببعض الأماسي وبعد تتبع وكيد فهمت أنه يعتكف في مسجد منعزل في ضاحية من ضواحي الدوحة"!
أما الجاحظ فتبدأ قصته من اليوم الذي قُتل فيه الشاعر بشار بن برد بتهمة الزندقة، كان يومها "طفلا في عامه التاسع، متشبثا بيد أمه، وعيناه الجاحظتان الواسعتان تدوران بسرعة متأملتين كل التفاصيل، كانتا تخترقان الحشود وتعودان إلى هامته، وقلبه يكاد ينزُو من بين أضلاعه فرقا"
تبحرُ بك الحدقي بعد ذلك، في بناء سردي شائق وماتع، فتنقلك بسلاسة من غرفة أخبار قناة العروبة ويومياتها المتسارعة المكتظة بمطاردة الأخبار، إلى صباحات الجاحظ ومساءاته على نهر سيحان بالبصرة، المُكتظّةِ جَنباته بالسّماكين والصّيادين والباعة والفضوليين، حيث الجاحظ يتلقف سمك الشّبوط، إلى سوق البصرة العامر، حيث حركة الناس من كل الأصناف لا تتوقف، من باعة ومُكارين ومشايخ وطلاب، إلى أزقة درب الطويل والسوق الكبير "التي تُظِلُّ سُحنا مختلفة وأمشاجا وأخلاطا لا تجتمع بمكان في الدنيا إلا في هذه المدينة".
كان الجاحظ يتنقل في درب الوراقين بسوق البصرة حيث الكتب المتناثرة والدكاكين الغاصّة بالناس، "يسمع للّسان الفارسي بمطّاته الحلوة واللّهجة البدوية الصقيلة وسط لهجات ولكنات هجينة أخرى" إلى يوميات أخصاص طلاب الخليل بن أحمد الفراهيدي، حيث نبغ الجاحظ وتميز، إلى أجمل وأمتع مافي الرواية حيث المناظرات بين مشايخ المعتزلة وأهل الحديث وعقائد المجوس والنصارى، وغير ذلك من الملل والمذاهب والمدارس والأفكار التي كانت تضجّ بها البصرة أيام الجاحظ، لقد كان ذلك العصر عصرا غنيا بالمناظرات وحركة العقول وتدوين العلوم، بين هذا وذاك تُعرّج بك الرواية لتنقل لك طرفا من يوميات وأخبار "جماعة المسجديين" ممن ينتحلون الاقتصاد في النفقة والتثمير للمال، فلا تتمالك نفسك من الضحك الشديد.
من البصرة ينتقل الجاحظ إلى بغداد، بعد رواج بعض رسائله، ويتبدّل حاله من فقر مدقع إلى يسر وسعة في العيش، بغداد حيث المأمون وبيت الحكمة وحركة الترجمة والمناظرات التي لا تتوقف بين المعتزلة وأهل الحديث وغيرهم من المدارس الأخرى.
في بغداد زادت عزلة الجاحظ مع كتبه، فبغداد المدينة السّاحرة المضطربة بالأحداث ورغم كل ما تضج به هذه المدينة فإنه "لن يبق منه للتاريخ إلا ما يُخلّدُه قلم مُبين، أو يَفْتَكَّه شاعر بليغ من بين أنياب الزمان". فهم الجاحظ هذا المعنى، فانكبّ على كتبه وخلّد بقلمه الأصيل ذلك التاريخ في أروع ما كُتب بالعربية.
نجحت الرّواية في نقل صورة "ملونة" من البصرة وبغداد في القرن الثالث الهجري، الزاخر بالحركية العلمية، المتنوع بالثقافات والأعراق والعقائد والمدارس والمناظرات.. وفي كل ذلك كان الجاحظ في خضم تلك الحركية، حاضرا في كل الميادين، منافحا بفكره المتقد مع شيوخ المعتزلة، مسايرا أعلام البخلاء وأهل الإصلاح والاقتصاد، مسامرا الشعراء، مُتسمّعا لأحاديث الأعراب حيث الأصمعي والكسائي يحرشان بينهم، حتى نحل جسمه وضعف وأصابه الفالج فألقى به مٌتكوّما بين آلاف الكتب داخل غرفة معزولة في زاوية من زوايا البصرة.
أما محمد القروي فقد انتهت قصّة حبّه الغريبة إلى الفشل بعد رفض والد حصّة تزويجها منه، وإلى طرده من العمل مُكبّلا بقروض بنكية، ليعيش أياما صعبة في الدوحة، قبل أن يأتيه الفرج من سويسرا حيث سيعمل مستشارا لشركة غوغل بزيورخ تقديرا لجهوده في تصحيح الترجمات الآلية.
نجحت الرواية في "القبض" على صورة حية من حياة الجاحظ الزاخرة بالحضور العلمي والتآليف البديعة، غير أنها لم تتوسع في ذلك، واكتفت بعناوين كبيرة دون الغوص أكثر فيها، وحتى الحوارات الداخلية الشائقة المحتدمة في نفس الجاحظ، والتي تناثرت بأقدار يسيرة جدا في ثنايا الرواية حول العلاقة بين سلطان العقل والقلب ومايتبع ذلك من مباحث، لو غاصت فيها الرواية أكثر لكانت عرضت لمبحث عظيم، لم ينل بعد حظه من الكتابة، لكن "مطوعة بريدة" -سامحها الله- والتي يبدو أنها جاءت على غير تخطيط أصيل من الرّاوي، ساهمت في تقليص ذلك الجانب الجميل من الرواية لتملأه بيوميات عادية في مساحة محدودة، قليلة التنوع، ليس فيها إلا مشهد دوام مُمل، يتكرر من غرفة الأخبار، وإن أراد التوسع فصعودا إلى الدرج العلوي حيث الكافتريا وحوارات "القيقة الخطيرة" صاحبة "نوكيا أبو المصباح" مطوعة بريدة، والتي لم تثمر شيئا ذا بال في حياة محمد القروي.
ختاما، يبقى الأسلوب الروائي، خصوصا هذا النمط منه، الأقدر على ترسيخ الصّور وتقديم تراث الشخصيات الكبيرة، بأسلوب شيق يناسب أكثر زمان الناس هذا، ولقد نجح ابن الدين في جزء كبير من ذلك في روايته الحدقي، مقدما للقارئ في أسلوب لغوي أصيل، وبقلم أنيق رشيق، طرفا من حياة الأديب الموسوعي الجاحظ وزمانه الزاخر بالأحداث والحركية العلمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق