الثلاثاء، 30 يناير 2018

تقييمُ المخزون السّمكي، لماذا؟ وكيف؟

شبكة الصيد على متن سفينة العوام ، تصوير حمود الفاظل
سُئِلَ أحد الباحثين في مجال الثروة السمكية وتقييم المخزون عن مهمته كباحث في هذا الميدان ؟ فأجاب: أقوم بِعَدِّ الأسماك في البحر، ومع بساطة هذه الاجابة إلا أنها قد تعطي فكرة أولية عن المقصود بتقييم المخزون السّمكي، رغم أنه ليس بهذه السهولة والبساطة الظاهرة.
تُعتبر الثروة السمكية من المصادر الطبيعية المتجددة التي لها القدرة على تجديد نفسها من خلال عمليات التكاثر الطبيعي، ويرتبط قطاع الصيد الذي يشكل أهمية كبرى في الاقتصاد الموريتاني (50 % من الصادرات و30 % من إيرادات الميزانية وأكثر من 30000 فرصة عمل)  بهذه الثروة وخصوصا حجم المخزون السمكي ومستوى استغلاله وكذلك قدرته الانتاجية، وبطبيعة الحال يتأثر هذا المخزون السمكي بمجموعة من العوامل منها الطبيعي (خصائص المياه، الحرارة، الملوحة...الخ) ومنها العوامل التي يسببها نشاط الإنسان والتي يمكن إجمالها فيما يعرف ب"جهد الصيد" الذي هو المحصلة النهائية لكل ما يمارسه الإنسان من آثارٍ لاستغلال المخزون (عدد قوارب الصيد، معدات الصيد، فترات الصيد...الخ) ويعتبر جهد الصيد العامل الأكثر تأثيرا على المخزون السمكي حيث يشكل تنامي هذا الجهد  بشكل غير منظم ولا يتناسب مع طاقة المخزون وقدرته الانتاجية تدهورا في المخزون واستحالةَ عودته لحالته الطبيعية، مما يؤثر على التنمية ويحدُّ من الاستفادة من الثروة السمكية.
ويعتبر تقدير المخزون السمكي (معرفة حجم الثروة السمكية المتوفرة) وتقييمه (معرفة درجة استغلاله : هل يُستغل بشكل متوازن أم هناك فرط في الاستغلال) من الأمور الأساسية التي لا غنى عنها لحماية الثروة السمكية واستغلالها بما يضمن تجددها.
1-   المفهوم:
المخزون السمكي1 بمعناه العام يعني حجم الكتلة الحية من الأسماك في المياه البحرية، أي قدرتها الانتاجية،  وفي موريتانيا يمكن تقسيم المخزون السمكي إلى قسمين كبيرين:
1-2 : مخزون الأسماك السطحية وهي التي تعيش قريبة من السطح وعادة يكون هذا المخزون مشتركا بين الدول المجاورة نتيجة لهجرة هذه الأنواع،  ويمثل حجم الانتاج السنوي من هذا المخزون أكثر من 70% من الكمية المصطادة وحوالي 30% من قيمة الصادرات السمكية في موريتانيا.
1-3 : مخزون الأسماك القاعية وهي الأنواع السمكية التي تعيش في القاع أو قريبة منه، ويضم أهم الأنواع ذات العائد المادي الكبير كالأخطبوط مثلا، وتمثل الموارد القاعية حوالي 31% من الكمية الاجمالية للصيد بينما تصل قيمة الصادرات السمكية لهذا المخزون حوالي 75 % .
2-   لماذا تقييم المخزون السمكي؟
إن تقييم المخزون السمكي وتحديد مستوى استغلاله يعتبر عنصرا أساسيا للحفاظ على الثروة السمكية من التدهور، وفي غياب هذا التقييم يمكن أن يُشكل تنامي جهد الصيد بشكل غير منظم على أسماك معينة دون مراعاة المخزون المتوفر والمتاح للاستغلال خطرا يهدد هذا المخزون، كما أن الاستمرار في صيد أعداد كبيرة من الأسماك في مراحل نضجها يحرمها من فرصة التكاثر وإثراء المخزون الطبيعي  والصيد المُوجّه لصغار الأسماك بأحجام صغيرة، مما ينتج عنه تدهور المخزون السمكي وهو ما يهدد بانقراض أنواع معينة وتراجع مخزونها حتى يصل إلى مرحلة يصعب معها أن يعود لوضعيته الطبيعة، لذلك يصبح من اللازم تقييم المخزون السّمكي لمعرفة الأنواع التي تتعرض لاستغلال مفرط، وتلك التي لاتزال مخزوناتها في حالة جيدة تسمح بمزيد من الاستغلال، ولا بد هنا من الأخذ بالتّوصيات العلمية التي يصدرها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد (IMROP) في هذا الشأن لضمان استغلال متوازنٍ لثرواتنا السمكية.
3-   كيف يتم تقييم المخزون السمكي؟
يتم تقييم المخزون السمكي بإحدى طريقتين: طريقة مباشرة وأخرى غير مباشرة.
3-1: الطريقة المباشرة:
 وذلك عن  طريق ما يعرف بالحملات العلمية (les campagnes scientifiques ) وهي عبارة عن إجراء مسح لمياه البحر بواسطة سُفن الأبحاث لتقدير المخزون السمكي ورصد تطوره، وهناك نوعان من الحملات العلمية وذلك حسب طبيعة المخزون السمكي المُراد تقييمه، فإذا كان المخزون من الأسماك القاعية يتم تقييمه عن طريق:
3-1-1: الحملات القاعية ((Les Campagnes démersales
حيث تقوم سفينة البحث بإجراء مسوحات لأخذ عينات الأسماك عن طريق شباك الجر القاعي على طول الشواطئ، ويتم بعد ذلك تصنيف وعدّ الأسماك التي تم صيدها وذلك لحساب مؤشرات الوفرة Indice d’abondance لهذه الأنواع فيما بعد، والتي تعتبر عنصرا أساسيا في تقييم المخزون السمكي خصوصا إذا كانت سلسلة البيانات طويلة، وفي حالة المخزون المراد تقييمه يتكون من أسماك السطح الصغيرة ففي هذه الحالة يتم استخدام:
3-1-2: الحملات الصوتية (Les campagnes acoustiques)
حيث يتم تقييم الكتل الحية للنوعيات المستهدفة  وإعداد خرائط توزيعية لها، وذلك عن طريق جهاز مثبت في السفينة يُطلق مجموعة من الأمواج الصوتية تنعكس على شكل طاقة (SA) حين تصطدم بأجسام الأسماك حيث يتم تحليل تلك الطاقة لتقدير الكتلة الحية لتلك الأسماك وتحديد أنواعها.
وينظم المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد هذه الحملات العلمية منذ عشرات السنيين حيث وفرت مجموعة من المعطيات العلمية حول طبيعة المخزون ومستوى استغلاله، ورغم بساطة هذه الطريقة إلا أنه رغم ذلك تعترضها الكثير من الصعوبات، منها مثلا طبيعة الأسماك وسلوكها حين تحس بالشباك وهي تقترب منها وكذلك تكاليفها الباهظة (حيث يكلف اليوم الواحد قرابة 1200000 أوقية، في سفينة البحث "العوام" أحيانا تصل الحملة إلى عشرين يوما).


3-2: طريقة غير مباشرة: وذلك عن طريق استخدام نماذج تقييم المخزون السمكي انطلاقا من المعطيات المتوفرة عن المخزون (الكميات المصطادة ، جهد الصيد ..الخ) حيث تقوم هذه النماذج عن طريق مجموعة من العمليات الرياضية بتقييم المخزون السمكي وذلك لتحديد ثلاث مستويات للمخزون:

·        مصايد مستغلة دون  المستوى المطلوب والذي يتيحه المخزون
·        مصايد تكون فيها درجة الاستغلال متوازنة مع مايتيحه المخزون وضمان تجدده
·        مصايد تكون فيها درجة الاستغلال تفوق  مايتيحه المخزون وهو ما يعرف بالاستغلال المفرط الذي يؤدي لتدهور المخزون .
وبحسب الدراسات والأبحاث التي يقوم بها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد  انطلاقا من هذه الطرق المباشر وغير المباشرة وعن طريق استخدام المعطيات التي توفرها الحملات العلمية وكذلك قواعد البيانات المختلفة، يمكن بشيء من الإجمال القول بأن مؤشرات الوفرة لأهم الأنواع السمكية القاعية شهدت تراجعا مستمرا خلال العقد الماضي، وأن مخزون بعض الأنواع القاعية  يشهد تناقصا وأحيانا تدهورا بسبب فرط الاستغلال الذي تجاوز قُدرات المخزون كما هو الحال بالنسبة للأخطبوط، فيما يظل مخزون الأسماك السطحية بشكل عام في حالة جيدة تسمح بمزيد من فرص الاستغلال.
4-   ختاما
يبقى تقييم المخزون السمكي أداة لا غنى عنها من أجل إدارة أمثل للموارد السمكية، كما أن تحقيق التوازن بين حجم المخزون السّمكي وجهد الصيد الذي يمارس عليه سيساهم في صيد الأعداد أو الحجم الزائد من المخزون في كل سنة، ولا يمكن تحقيق هذا التوزان مالم يتم الأخذ بنتائج الدراسات والاستشارات العلمية التي يقدمها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد في هذا الشأن، حيث يمكن للقرارات الصادرة من السلطات المعنية بناء على هذه الدراسات أن تُساهم في الحفاظ على المخزون السّمكي واستغلاله مع ضمان تجدده وذلك بتطبيق مجموعة من الاجراءات المختلفة
ومن هذه الاجراءات الضرورية :
·        منع صيد الأحجام الصغيرة من الأنواع السمكية التي لاتزال في طور النمو وذلك لتوفير الفرصة لها لتصل إلى حجم يمكن معه أن تصل إلى مرحلة النضوج، كما أن صيدها بأحجام صغيرة يجعل قيمتها التجارية متدنية.
·        منع الصيد في مواسم وأماكن معينة كتلك الأماكن التي يعتقد أن الأسماك تلجأ إليها للتكاثر ووضع البيوض، أو المحميات الطبيعة لما توفره من توازن طبيعي مهم لثراء المخزون وتنوعه كما أن منع الصيد في مواسم معينة يأتي للحفاظ على المخزون السمكي لأنواع محددة يعاني مخزونها فرط الاستغلال (حسب الدراسات) وذلك لإعطائها فرصة للتكاثر وحماية صغارها وكمثال على ذلك (الراحة البيولوجية التي تستهدف حماية مخزون الأخطبوط) .
·        منع استخدام معدات الصيد الضارة التي تتسبب في تضرر المخزون السمكي أو البيئة البحرية بسبب استخدام نوع معين من المعدات يخالف المعايير المعتمدة في هذا المجال.
·        تحديد جهد الصيد وذلك عن طريق تنظيم رخص الصيد وعدد القوارب التي تصطاد في المياه الوطنية، وسيساعد ذلك في تخفيض جهد الصيد ليتناسب مع الطاقة الإنتاجية للمخزون، بحيث يتم استغلال ما يزيد على حاجة المخزون من الأعداد والإبقاء في نفس الوقت على أعداد كافية منه لتقوم بمهمة تجديد المخزون عن طريق التكاثر.
إن هذه الاجراءات وغيرها مِمَّا لم يتم اتخاذه بعد من شأنه أن يُسهم في الحفاظ على ثروتنا السمكية وإدارة استغلالها بما يُحقق الفائدة للمواطن ويضمن تجدد هذه الثروة في المستقبل، وذلك في ضوء نتائج الأبحاث والدراسات العلمية التي تشير إلى تناقص المخزون السمكي وحالة الاستغلال المفرط الذي تعاني منه بعض الأنواع السمكية ذات الأهمية البيئية والعائد المادي المعتبر، ولن يتم ذلك بالطبع مالم تُعط عناية خاصة للبحث العلمي في مجال الثروة السمكية عن طريق الاهتمام بالمعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد (IMROP) ماديا ومعنويا، وتوفير كل الوسائل الضرورية ليقوم بمهمته في هذا المجال، وذلك بوصفه المؤسسة المسؤولة عن إعداد الدراسات والأبحاث بشأن الثروة السمكية وتوفير المعلومات الأساسية عن حالة وتطور المخزون السمكي.


---------------------
(1) – المخزون السمكي: تعبير غير دقيق علميا، باعتبار أن الثروة البحرية الحية ليست فقط مجرد أسماك، هناك رخويات، قشريات...الخ. لكنه تعبير دارج استخدمناه هنا لتقريب المفاهيم

الأربعاء، 3 يناير 2018

قراءة في رواية الحدقي


رواية الحدَقي في خضمّ البحر.

على متن سفينة "العوّام" قافلا من غينيا بيساو إلى انواذيب، في طريق بحري مضطرب، كانت رواية الحدقي رفيقا لي.
الحدقي رواية تاريخية للكاتب الموريتاني أحمد فال بن الدين صدرت قبل أيام، تحكي طرفا من حياة الأديب العربي الكبير أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ.
أهداني الأخ والصّديق العزيز Mohamed Abdallahi Lehbib (ديدي) الرّواية على صيغة pdf، ومع أني كنت أُفضل قراءتها ورقيا، إلا أن التّشويق الذي قدّم به الأخ ديدي للرّواية في مقال على موقع الجزيرة نت، وكذا الملل والرّتابة اللتان تغلبان على راكب البحر، نتيجة الفقر الكبير في التنوع؛ فلا شيء على ظهر السفينة ستراه في الاتجاهات الأربع سوى زرقة السماء والماء! كل ذلك دفعني لأن أبدأ القراءة فورا، مع تسجيل بعض الملاحظات والانطباعات الأولية؛
الرواية في أغلبها، رواية كثيفة متراقصة الأحداث، تسير في تناسق ذكيّ بين خطّين زمنيين متباعدين جدّا، لكن الكاتب استطاع إيجاد وحدة موضوعية طوت فارق الزمان والمكان بين شخصية الجاحظ في القرنين الثاني والثالث الهجريين، متنقلا بين البصرة وبغداد، ومحمد القروي في القرن الحادي والعشرين الميلادي في قناة العروبة بالدّوحة.
كما نجح الكاتب في اختيار الأسلوب السّردي المناسب لكل فترة؛ ففي يوميات محمد القروي في قناة العروبة، تحسّ حركية الزمن وسرعته في قاعة الأخبار، فهذه مقدمة أخبار تركض، وذاك منتج أخبار يقفز... بينما تشعر بالزمن وكأنه يتمدد في يوميات الجاحظ.
لقد وُفّق الكاتب أيضا، بمستوى كبير، في المُزامنة السّردية بين القصتين، مما يجعل القارئ أحيانا يشعر بأن للرّواية بطلا واحدا وروحا واحدة تسري في مجمل النص، وهذا اختبار صعب في الروايات التي تُحاول التحكم في خطّين زمنيين متباعدين جدا، وهو نمط من الروايات آخذ في الحضور، نجحت فيه بشكل كبير الرّواية البديعة "قواعد العشق الأربعون" ولعل الحدقي نحت ذلك النحو.
تبدأ قصة محمد القروي من غرفة الأخبار في قناة العروبة بالدوحة مدققا لغويا، يدفع به تعصّبه للغة العربية وحساسيته الشديدة من الأخطاء، وما جلبه عليه ذلك من معارك مع زملائه في العمل، إلى أن يستقرَّ به الأمر على مشروع كتابة رواية عن الجاحظ، وهو العمل الذي يجد فيها راحته وذاته المهنية "اكتب ياعم ففي عالم الجاحظ لن يشْغَب عليك أحد" لكن غرفة الأخبار ستُورّطه في قصة حبّ غريبة، مع فتاة سعودية تعمل في أمن المعلومات بالقسم التقني في القناة، أو من يُسميهم الكاتب في إبداع طريف "النفّاثات في العقد".
حصة أو "مطوعة بريدة" هي فتاة سعودية "وجهها طويل قليل اللحم، عيناها عميقتان وشفتاها مُحايدتان، مع قامة مربوعة أقرب للقصر، وجسم يشي الجينز الضاغط له بأن لاشيء فيه يدعو للأهمية أو ليّ الأعناق، أورثها الجو الدّيني المكثف في منطقتها بالسعودية ضيقا شديدا بالمتدينين، وفهما خاصا للإسلام؛ فهي تسخر من المتدينين لكنها تخشى من العين خشية مجنونة، تدعو إلى الليبرالية الاجتماعية لكنها ضد الحرية السياسية، تنتقد الحركات الإسلامية السياسية لكنها تدافع عن المدرسة الوهابية بعقلية بدوي يطلب ثأر أبيه" هي باختصار "حنبلية في مسلاخ ليبرالية وقبَليّة في لحاف مواطنة"
ولأن محمد القروي "يضيق بالفتاة الباهتة العادية التي تخلو حياتها من تعرجات أو نتوءات، ويبحث عن فتاة تفاجئه طول الطريق حتى ولو كانت مفاجآت سلبية" تمكن منه حُبّها، كما أحَبّته هي أيضا، رغم غرابة شخصيته بالنسبة لها، لقد "كان من أكثر ماجذبها إليه تدينه المخالف للتدين الذي عرفته، فعندما رأته أول مرة لم تتوقع تدينه، لكنها مع طول الصّحبة هَجَمتْ منه على خصائص غريبة، فقد اكتشفت استحالة التواصل معه ببعض الأماسي وبعد تتبع وكيد فهمت أنه يعتكف في مسجد منعزل في ضاحية من ضواحي الدوحة"!
أما الجاحظ فتبدأ قصته من اليوم الذي قُتل فيه الشاعر بشار بن برد بتهمة الزندقة، كان يومها "طفلا في عامه التاسع، متشبثا بيد أمه، وعيناه الجاحظتان الواسعتان تدوران بسرعة متأملتين كل التفاصيل، كانتا تخترقان الحشود وتعودان إلى هامته، وقلبه يكاد ينزُو من بين أضلاعه فرقا"
تبحرُ بك الحدقي بعد ذلك، في بناء سردي شائق وماتع، فتنقلك بسلاسة من غرفة أخبار قناة العروبة ويومياتها المتسارعة المكتظة بمطاردة الأخبار، إلى صباحات الجاحظ ومساءاته على نهر سيحان بالبصرة، المُكتظّةِ جَنباته بالسّماكين والصّيادين والباعة والفضوليين، حيث الجاحظ يتلقف سمك الشّبوط، إلى سوق البصرة العامر، حيث حركة الناس من كل الأصناف لا تتوقف، من باعة ومُكارين ومشايخ وطلاب، إلى أزقة درب الطويل والسوق الكبير "التي تُظِلُّ سُحنا مختلفة وأمشاجا وأخلاطا لا تجتمع بمكان في الدنيا إلا في هذه المدينة".
كان الجاحظ يتنقل في درب الوراقين بسوق البصرة حيث الكتب المتناثرة والدكاكين الغاصّة بالناس، "يسمع للّسان الفارسي بمطّاته الحلوة واللّهجة البدوية الصقيلة وسط لهجات ولكنات هجينة أخرى" إلى يوميات أخصاص طلاب الخليل بن أحمد الفراهيدي، حيث نبغ الجاحظ وتميز، إلى أجمل وأمتع مافي الرواية حيث المناظرات بين مشايخ المعتزلة وأهل الحديث وعقائد المجوس والنصارى، وغير ذلك من الملل والمذاهب والمدارس والأفكار التي كانت تضجّ بها البصرة أيام الجاحظ، لقد كان ذلك العصر عصرا غنيا بالمناظرات وحركة العقول وتدوين العلوم، بين هذا وذاك تُعرّج بك الرواية لتنقل لك طرفا من يوميات وأخبار "جماعة المسجديين" ممن ينتحلون الاقتصاد في النفقة والتثمير للمال، فلا تتمالك نفسك من الضحك الشديد.
من البصرة ينتقل الجاحظ إلى بغداد، بعد رواج بعض رسائله، ويتبدّل حاله من فقر مدقع إلى يسر وسعة في العيش، بغداد حيث المأمون وبيت الحكمة وحركة الترجمة والمناظرات التي لا تتوقف بين المعتزلة وأهل الحديث وغيرهم من المدارس الأخرى.
في بغداد زادت عزلة الجاحظ مع كتبه، فبغداد المدينة السّاحرة المضطربة بالأحداث ورغم كل ما تضج به هذه المدينة فإنه "لن يبق منه للتاريخ إلا ما يُخلّدُه قلم مُبين، أو يَفْتَكَّه شاعر بليغ من بين أنياب الزمان". فهم الجاحظ هذا المعنى، فانكبّ على كتبه وخلّد بقلمه الأصيل ذلك التاريخ في أروع ما كُتب بالعربية.
نجحت الرّواية في نقل صورة "ملونة" من البصرة وبغداد في القرن الثالث الهجري، الزاخر بالحركية العلمية، المتنوع بالثقافات والأعراق والعقائد والمدارس والمناظرات.. وفي كل ذلك كان الجاحظ في خضم تلك الحركية، حاضرا في كل الميادين، منافحا بفكره المتقد مع شيوخ المعتزلة، مسايرا أعلام البخلاء وأهل الإصلاح والاقتصاد، مسامرا الشعراء، مُتسمّعا لأحاديث الأعراب حيث الأصمعي والكسائي يحرشان بينهم، حتى نحل جسمه وضعف وأصابه الفالج فألقى به مٌتكوّما بين آلاف الكتب داخل غرفة معزولة في زاوية من زوايا البصرة.
أما محمد القروي فقد انتهت قصّة حبّه الغريبة إلى الفشل بعد رفض والد حصّة تزويجها منه، وإلى طرده من العمل مُكبّلا بقروض بنكية، ليعيش أياما صعبة في الدوحة، قبل أن يأتيه الفرج من سويسرا حيث سيعمل مستشارا لشركة غوغل بزيورخ تقديرا لجهوده في تصحيح الترجمات الآلية.
نجحت الرواية في "القبض" على صورة حية من حياة الجاحظ الزاخرة بالحضور العلمي والتآليف البديعة، غير أنها لم تتوسع في ذلك، واكتفت بعناوين كبيرة دون الغوص أكثر فيها، وحتى الحوارات الداخلية الشائقة المحتدمة في نفس الجاحظ، والتي تناثرت بأقدار يسيرة جدا في ثنايا الرواية حول العلاقة بين سلطان العقل والقلب ومايتبع ذلك من مباحث، لو غاصت فيها الرواية أكثر لكانت عرضت لمبحث عظيم، لم ينل بعد حظه من الكتابة، لكن "مطوعة بريدة" -سامحها الله- والتي يبدو أنها جاءت على غير تخطيط أصيل من الرّاوي، ساهمت في تقليص ذلك الجانب الجميل من الرواية لتملأه بيوميات عادية في مساحة محدودة، قليلة التنوع، ليس فيها إلا مشهد دوام مُمل، يتكرر من غرفة الأخبار، وإن أراد التوسع فصعودا إلى الدرج العلوي حيث الكافتريا وحوارات "القيقة الخطيرة" صاحبة "نوكيا أبو المصباح" مطوعة بريدة، والتي لم تثمر شيئا ذا بال في حياة محمد القروي.
ختاما، يبقى الأسلوب الروائي، خصوصا هذا النمط منه، الأقدر على ترسيخ الصّور وتقديم تراث الشخصيات الكبيرة، بأسلوب شيق يناسب أكثر زمان الناس هذا، ولقد نجح ابن الدين في جزء كبير من ذلك في روايته الحدقي، مقدما للقارئ في أسلوب لغوي أصيل، وبقلم أنيق رشيق، طرفا من حياة الأديب الموسوعي الجاحظ وزمانه الزاخر بالأحداث والحركية العلمية.