سُئِلَ
أحد الباحثين في مجال الثروة السمكية وتقييم المخزون عن مهمته كباحث في هذا
الميدان ؟ فأجاب: أقوم بِعَدِّ الأسماك في البحر، ومع
بساطة هذه الاجابة إلا أنها قد تعطي فكرة أولية عن المقصود بتقييم المخزون السّمكي،
رغم أنه ليس بهذه السهولة والبساطة الظاهرة.
تُعتبر
الثروة السمكية من المصادر الطبيعية المتجددة التي لها القدرة على تجديد نفسها من
خلال عمليات التكاثر الطبيعي، ويرتبط قطاع الصيد الذي يشكل أهمية كبرى في الاقتصاد
الموريتاني (50 %
من الصادرات و30 %
من إيرادات الميزانية وأكثر من 30000 فرصة عمل) بهذه الثروة وخصوصا حجم المخزون السمكي ومستوى
استغلاله وكذلك قدرته الانتاجية، وبطبيعة الحال يتأثر هذا المخزون السمكي بمجموعة
من العوامل منها الطبيعي (خصائص المياه، الحرارة، الملوحة...الخ) ومنها العوامل
التي يسببها نشاط الإنسان والتي يمكن إجمالها فيما يعرف ب"جهد الصيد"
الذي هو المحصلة النهائية لكل ما يمارسه الإنسان من آثارٍ لاستغلال المخزون (عدد قوارب
الصيد، معدات الصيد، فترات الصيد...الخ) ويعتبر جهد الصيد العامل الأكثر تأثيرا
على المخزون السمكي حيث يشكل تنامي هذا الجهد بشكل غير منظم ولا يتناسب مع طاقة المخزون
وقدرته الانتاجية تدهورا في المخزون واستحالةَ عودته لحالته الطبيعية، مما يؤثر على
التنمية ويحدُّ من الاستفادة من الثروة السمكية.
ويعتبر
تقدير المخزون السمكي (معرفة حجم الثروة السمكية المتوفرة) وتقييمه (معرفة درجة
استغلاله : هل يُستغل بشكل متوازن أم هناك فرط في الاستغلال) من الأمور الأساسية
التي لا غنى عنها لحماية الثروة السمكية واستغلالها بما يضمن تجددها.
1- المفهوم:
المخزون السمكي1 بمعناه
العام يعني حجم الكتلة الحية من الأسماك في المياه البحرية، أي قدرتها الانتاجية، وفي موريتانيا يمكن تقسيم المخزون السمكي إلى
قسمين كبيرين:
1-2 : مخزون الأسماك السطحية وهي التي تعيش قريبة من السطح
وعادة يكون هذا المخزون مشتركا بين الدول المجاورة نتيجة لهجرة هذه الأنواع، ويمثل حجم الانتاج السنوي من هذا المخزون أكثر
من 70%
من الكمية المصطادة وحوالي 30% من قيمة الصادرات السمكية في موريتانيا.
1-3 : مخزون الأسماك القاعية وهي الأنواع السمكية التي تعيش في
القاع أو قريبة منه، ويضم أهم الأنواع ذات العائد المادي الكبير كالأخطبوط مثلا،
وتمثل الموارد القاعية حوالي 31% من الكمية الاجمالية للصيد
بينما تصل قيمة الصادرات السمكية لهذا المخزون حوالي 75 % .
2- لماذا تقييم المخزون
السمكي؟
إن تقييم المخزون السمكي وتحديد مستوى
استغلاله يعتبر عنصرا أساسيا للحفاظ على الثروة السمكية من التدهور، وفي غياب هذا
التقييم يمكن أن يُشكل تنامي جهد الصيد بشكل غير منظم على أسماك معينة دون مراعاة المخزون
المتوفر والمتاح للاستغلال خطرا يهدد هذا المخزون، كما أن الاستمرار في صيد أعداد
كبيرة من الأسماك في مراحل نضجها يحرمها من فرصة التكاثر وإثراء المخزون الطبيعي والصيد المُوجّه لصغار الأسماك بأحجام صغيرة،
مما ينتج عنه تدهور المخزون السمكي وهو ما يهدد بانقراض أنواع معينة وتراجع مخزونها
حتى يصل إلى مرحلة يصعب معها أن يعود لوضعيته الطبيعة، لذلك يصبح من اللازم تقييم
المخزون السّمكي لمعرفة الأنواع التي تتعرض لاستغلال مفرط، وتلك التي لاتزال
مخزوناتها في حالة جيدة تسمح بمزيد من الاستغلال، ولا بد هنا من الأخذ بالتّوصيات
العلمية التي يصدرها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد (IMROP) في هذا الشأن لضمان استغلال متوازنٍ لثرواتنا السمكية.
3- كيف يتم تقييم
المخزون السمكي؟
يتم تقييم المخزون السمكي بإحدى طريقتين: طريقة
مباشرة وأخرى غير مباشرة.
3-1: الطريقة المباشرة:
وذلك عن طريق ما يعرف بالحملات
العلمية (les
campagnes scientifiques ) وهي عبارة عن إجراء
مسح لمياه البحر بواسطة سُفن الأبحاث لتقدير المخزون السمكي ورصد تطوره، وهناك
نوعان من الحملات العلمية وذلك حسب طبيعة المخزون السمكي المُراد تقييمه، فإذا كان
المخزون من الأسماك القاعية يتم تقييمه عن طريق:
3-1-1: الحملات القاعية ((Les Campagnes
démersales
حيث تقوم سفينة البحث بإجراء مسوحات لأخذ
عينات الأسماك عن طريق شباك الجر القاعي على طول الشواطئ، ويتم بعد ذلك تصنيف وعدّ
الأسماك التي تم صيدها وذلك لحساب مؤشرات
الوفرة Indice d’abondance لهذه الأنواع فيما بعد، والتي تعتبر عنصرا
أساسيا في تقييم المخزون السمكي خصوصا إذا كانت سلسلة البيانات طويلة، وفي حالة
المخزون المراد تقييمه يتكون من أسماك السطح الصغيرة ففي هذه الحالة يتم استخدام:
3-1-2: الحملات الصوتية (Les campagnes
acoustiques)
حيث يتم تقييم الكتل الحية للنوعيات
المستهدفة وإعداد خرائط توزيعية لها، وذلك
عن طريق جهاز مثبت في السفينة يُطلق مجموعة من الأمواج الصوتية تنعكس على شكل طاقة
(SA) حين تصطدم بأجسام الأسماك حيث يتم تحليل
تلك الطاقة لتقدير الكتلة الحية لتلك الأسماك وتحديد أنواعها.
وينظم المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات
والصيد هذه الحملات العلمية منذ عشرات السنيين حيث وفرت مجموعة من المعطيات
العلمية حول طبيعة المخزون ومستوى استغلاله، ورغم بساطة هذه الطريقة إلا أنه رغم
ذلك تعترضها الكثير من الصعوبات، منها مثلا طبيعة الأسماك وسلوكها حين تحس بالشباك
وهي تقترب منها وكذلك تكاليفها الباهظة (حيث يكلف اليوم الواحد قرابة 1200000
أوقية، في سفينة البحث "العوام" أحيانا تصل الحملة إلى عشرين يوما).
3-2: طريقة غير مباشرة: وذلك عن طريق استخدام نماذج تقييم المخزون السمكي انطلاقا من المعطيات
المتوفرة عن المخزون (الكميات المصطادة ، جهد الصيد ..الخ) حيث تقوم هذه النماذج
عن طريق مجموعة من العمليات الرياضية بتقييم المخزون السمكي وذلك لتحديد ثلاث
مستويات للمخزون:
·
مصايد مستغلة دون المستوى
المطلوب والذي يتيحه المخزون
·
مصايد تكون فيها درجة الاستغلال متوازنة مع مايتيحه المخزون وضمان
تجدده
·
مصايد تكون فيها درجة الاستغلال تفوق
مايتيحه المخزون وهو ما يعرف بالاستغلال المفرط الذي يؤدي لتدهور المخزون .
وبحسب الدراسات والأبحاث التي يقوم بها
المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد انطلاقا من هذه الطرق المباشر وغير المباشرة وعن
طريق استخدام المعطيات التي توفرها الحملات العلمية وكذلك قواعد البيانات المختلفة،
يمكن بشيء من الإجمال القول بأن مؤشرات الوفرة لأهم الأنواع السمكية القاعية شهدت تراجعا
مستمرا خلال العقد الماضي، وأن مخزون بعض الأنواع القاعية يشهد تناقصا وأحيانا تدهورا بسبب فرط الاستغلال
الذي تجاوز قُدرات المخزون كما هو الحال بالنسبة للأخطبوط، فيما يظل مخزون الأسماك
السطحية بشكل عام في حالة جيدة تسمح بمزيد من فرص الاستغلال.
4- ختاما
يبقى تقييم المخزون السمكي أداة لا غنى عنها من أجل إدارة أمثل للموارد
السمكية، كما أن تحقيق التوازن بين حجم المخزون السّمكي وجهد الصيد الذي يمارس
عليه سيساهم في صيد الأعداد أو الحجم الزائد من المخزون في كل سنة، ولا يمكن تحقيق
هذا التوزان مالم يتم الأخذ بنتائج الدراسات والاستشارات العلمية التي يقدمها
المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد في هذا الشأن، حيث يمكن للقرارات الصادرة
من السلطات المعنية بناء على هذه الدراسات أن تُساهم في الحفاظ على المخزون السّمكي
واستغلاله مع ضمان تجدده وذلك بتطبيق مجموعة من الاجراءات المختلفة
ومن هذه الاجراءات الضرورية :
·
منع صيد الأحجام الصغيرة من الأنواع السمكية
التي لاتزال في طور النمو وذلك لتوفير الفرصة لها لتصل إلى حجم يمكن معه أن تصل
إلى مرحلة النضوج، كما أن صيدها بأحجام صغيرة يجعل قيمتها التجارية متدنية.
·
منع الصيد في مواسم وأماكن معينة كتلك الأماكن
التي يعتقد أن الأسماك تلجأ إليها للتكاثر ووضع البيوض، أو المحميات الطبيعة لما
توفره من توازن طبيعي مهم لثراء المخزون وتنوعه كما أن منع الصيد في مواسم معينة يأتي
للحفاظ على المخزون السمكي لأنواع محددة يعاني مخزونها فرط الاستغلال (حسب
الدراسات) وذلك لإعطائها فرصة للتكاثر وحماية صغارها وكمثال على ذلك (الراحة
البيولوجية التي تستهدف حماية مخزون الأخطبوط) .
·
منع استخدام معدات الصيد الضارة التي تتسبب في
تضرر المخزون السمكي أو البيئة البحرية بسبب استخدام نوع معين من المعدات يخالف
المعايير المعتمدة في هذا المجال.
·
تحديد جهد الصيد وذلك عن طريق تنظيم رخص
الصيد وعدد القوارب التي تصطاد في المياه الوطنية، وسيساعد ذلك في تخفيض جهد الصيد
ليتناسب مع الطاقة الإنتاجية للمخزون، بحيث يتم استغلال ما يزيد على حاجة المخزون
من الأعداد والإبقاء في نفس الوقت على أعداد كافية منه لتقوم بمهمة تجديد المخزون عن
طريق التكاثر.
إن هذه الاجراءات
وغيرها مِمَّا لم يتم اتخاذه بعد من شأنه أن يُسهم في الحفاظ على ثروتنا السمكية
وإدارة استغلالها بما يُحقق الفائدة للمواطن ويضمن تجدد هذه الثروة في المستقبل، وذلك
في ضوء نتائج الأبحاث والدراسات العلمية التي تشير إلى تناقص المخزون السمكي وحالة
الاستغلال المفرط الذي تعاني منه بعض الأنواع السمكية ذات الأهمية البيئية والعائد
المادي المعتبر، ولن يتم ذلك بالطبع مالم تُعط عناية خاصة للبحث العلمي في مجال
الثروة السمكية عن طريق الاهتمام بالمعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد (IMROP) ماديا ومعنويا، وتوفير كل
الوسائل الضرورية ليقوم بمهمته في هذا المجال، وذلك بوصفه المؤسسة المسؤولة عن
إعداد الدراسات والأبحاث بشأن الثروة السمكية وتوفير المعلومات الأساسية عن حالة
وتطور المخزون السمكي.
---------------------
(1) – المخزون السمكي: تعبير غير دقيق علميا، باعتبار أن الثروة البحرية الحية
ليست فقط مجرد أسماك، هناك رخويات، قشريات...الخ. لكنه تعبير دارج استخدمناه هنا
لتقريب المفاهيم