ليس ركوبُ البحر متعة وسياحة كما هو شائع عند كثير من الناس،هناك خلْط فادح بين البحر والشاطئ ،الشاطئ جميل ومسالم و"مُستقر" أما البحر فهائج ومضطرب وكئيب في أغلب حالاته.
وعلى من اُبتلي بركوب البحر أن يصمد فلا يجزع، إذ ما فائدة الجزع والسلبية وقدرك الاشتباك مع واقع لا مناص منه، ثم ليفتش بعد ذلك عن ميزة من مزايا البحر -على قلتها- ليدفع بها شرَّ ما سيناله منه، وهو-لاشك- كثير.
وعلى من اُبتلي بركوب البحر أن يصمد فلا يجزع، إذ ما فائدة الجزع والسلبية وقدرك الاشتباك مع واقع لا مناص منه، ثم ليفتش بعد ذلك عن ميزة من مزايا البحر -على قلتها- ليدفع بها شرَّ ما سيناله منه، وهو-لاشك- كثير.
لقد ركبُتُ
البحر هذه المرة وفي رأسي تأملات وأسئلة كبيرة لم أجد لها متسعا من الوقت، فعلى الأرض "زحمة" خانقة لا تترك مجالا للتأمل أو التفكير المتسع، وقد اكتشفت من رحلاتي البحرية أن ركوب البحر يمنحني-أحيانا- ميزة نادرة لا أجدها على الأرض/المكان1.
تلك الميزة أسميها "الانفصال عن المكان" أي الإفلات من "قبضة" الأرض بتفاصيلها التي لا تنتهي ويومياتها المزدحمة وخلق مسافة آمنة بيني وبينها، لأعيش تجربة الانفصال تلك بخصوصيتها وما تمنحه من فرصة للتأمل الهادئ، تماما مثل ذلك الطائر البحري الذي هبَطَ خطأ على ظهر سفينتنا وهي تقاوم أمواج المحيط وأصبح عاجزا عن الطيران، سألت أحد البحّارة مستغربا: ما بال هذا الطائر ما الذي أقعده عن الطيران،هل هو مصاب؟ لفَّ لي في ضحكة تهكمية إجابته عن السؤال -والتهكم عادة من عادات هذه "الكائنات" التي تسكن البحر حين تسألها تلك "الكائنات" القادمة من الأرض- أجاب البحار: ليس مصابا بأي شيء، وهو في حالته الطبيعية، لكنه لا يستطيع الطيران إلا حين يلامسُ بريشته ماء البحر!حين ترمي به إلى البحر ستراه طائرا في السماء كبقية الطيور!! وفعلا حدث الأمر تماما كما أخبرني ذلك البحّار،حين دفعناه منْ عَلىَ ظهر السفينة إلى البحر عاد للتّحليق و للطيران!!.
تعجبتُ من الأمر كثيرا ووجدتُ بعض التشابه بيني وبين ذلك الطائر،فكلانا انفصل ولو مؤقتا عن المكان،البحر بالنسبة له والأرض بالنسبة لي،لكننا اختلفنا في التعامل مع اللحظة،سيطر الخوف عليه حتى أقعده عن الطيران رغم أنه سليم الأعضاء ولا فرق بينه وبين الطيور التي يراها تحلق فوقه، أما أنا فقد أتاح لي انفصالي -المؤقت-عن المكان/الأرض القدرة على "التحليق" بعيدا عن يوميات الحياة وتفاصيلها الصغيرة التي لا تنتهي.
والانفصال عن "الشيء" وخلق مسافة دونه عادة قديمة قبل ركوب البحر(الجديد الآن هو استثمارها والاستفادة منها) فقد كنت أثناء دراستي للفيزياء في مرحلة الباكلوريا وبعد ذلك في الجامعة أضع مسافة بيني وبين تلك المادة، وأحاول أن أنفصل عنها وأنظر إليها من الخارج، وكنت ألوم زملائي الطلاب على طريقتهم في الدراسة حيث تستغرقهم المعادلات ويتيهون هناك في "الداخل" دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة للتأمل، أو ما كنت أسميه حينها "المراجعة الحكيمة" لكن تلك "الحكمة" للأسف سأدفع ثمنها بعد ذلك غاليا، فلم يستطع عقلي الصغير آنذاك - ولا يزال صغيرا بالمناسبة- أن يستفيد من تلك المنهجية المتطورة في المراجعة، كل ما حصل هو أنني خلقتُ عداوة بيني وبين الفيزياء و"انفصلتُ" حقيقة لا مجازا عنها وعن مادة الفلسفة التي كنتُ أتعامل معها بنفس المنطق، فكانت نتائجي فيهما متواضعة جدا وضعفت علاقتي بهما، وهو ما أعاني منه اليوم بحُسبان أن الفلسفة والفيزياء بما تتيحانه من منطق فلسفي وعلمي تساعدان كثيرا في التعامل مع هذا "الاجتياح" التأملي الذي يحدث معي أحيانا حين أركبُ البحر وأضع مسافة بيني وبين الأرض.
عندما أكون في البحر على ظهر السفينة فإن علاقتي بالسماء تكون قوية ومثمرة، حين أقلّبُ بصري بين زرقة السماء المتسعة وزرقة المحيط الهائلة تولد الأفكار، فليست هناك تفاصيل كثيرة تلهو بها النفس، ففي ذلك الفضاء تختفي "تفاصيل" الأرض و"أشياؤها" الصغيرة، هنا فضاء الأشياء الكبيرة، لم يعد هناك شاغل عن التفكير، لا بديل عن التفكير والتأمل، ساعتها يبدأ شريط الحياة ومحطاته البارزة، لماذا؟ كيف؟ ومتى كان ذلك؟....و تتبلور الخلاصات.
أما حين أكون على "الأرض" فنادرا ما أنظر إلى السماء، وأذكر هنا أنه خلال هذه السنة التي أو شكت على أن تودعنا، لم أوُفّق للنظر ناحية السماء إلا مرتان، الأولى حين قرأتُ تدوينات لبعض الشباب في "الفيس" يتحدثون فيها عن جمال القمر وبأنه تلك الليلة في قمة الروعة، الثانية حين قرأتُ خبرا من تلك الأخبار العلمية التي يصعبُ علي دائما تصديقها بسهولة -ربما لعلاقتي العدائية بالفيزياء- يقول بأن القمر سيظهر الليلة أكبر من حجمه المعتاد بنسبة 14% كما سيزداد بريقه بنسبة 30 % مقارنة بباقي أيام السنة ، خرجت من المنزل تلك الليلة لأرصد الحدث وقد أدركتُ القمر في نهاية "دوامه" يستعد للمغادرة، يقتفي خطى الشمس كعادته في "مطاردة" أبدية لا تتوقف، ولم ألاحظ شيئا ذا بال!
أما حين أكون على "الأرض" فنادرا ما أنظر إلى السماء، وأذكر هنا أنه خلال هذه السنة التي أو شكت على أن تودعنا، لم أوُفّق للنظر ناحية السماء إلا مرتان، الأولى حين قرأتُ تدوينات لبعض الشباب في "الفيس" يتحدثون فيها عن جمال القمر وبأنه تلك الليلة في قمة الروعة، الثانية حين قرأتُ خبرا من تلك الأخبار العلمية التي يصعبُ علي دائما تصديقها بسهولة -ربما لعلاقتي العدائية بالفيزياء- يقول بأن القمر سيظهر الليلة أكبر من حجمه المعتاد بنسبة 14% كما سيزداد بريقه بنسبة 30 % مقارنة بباقي أيام السنة ، خرجت من المنزل تلك الليلة لأرصد الحدث وقد أدركتُ القمر في نهاية "دوامه" يستعد للمغادرة، يقتفي خطى الشمس كعادته في "مطاردة" أبدية لا تتوقف، ولم ألاحظ شيئا ذا بال!
خارج هذين السياقين لا أذكر أنني خلال الأشهر الماضية التي كنت فيها في قبضة "المكان" قررت أن أتوجه ببصري إلى السماء بمحض إرادتي والأخطر من ذلك: لا أذكر أنني أخذت وقتا للتأمل بهدوء في قضية معينة خصوصا تلك القضايا الكبيرة التي تستحق التفكير المتروي.
إننا في عصر خِلْو من التأمل والتدبر والنظر، استغرقتنا وسائل الإعلام والتواصل بجديدها الذي لا يتوقف ولن يتوقف بطبيعة الحال، وابتعلتنا الحياة بتفاصيلها التي لا تنتهي، وإذا صحّ فعلا ما يُقال من أنَّ "الشيطان يكمن في التفاصيل" فإنني أرى عددا هائلا من الشياطين ومن مختلف الأصناف كامن بقوة في حياتنا المعاصرة بحكم ما فيها من تفاصيل، على أن البحر ليس خُلُوًّا من الشياطين، بل أنا ممن يرى أنه مملكة الجن على هذه الأرض منه ينطلقون وفيه يتكاثرون وتلك -على كل حال- قصة أخرى تحتاج إثباتا من نوع خاص.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم.
---------------------------------
إننا في عصر خِلْو من التأمل والتدبر والنظر، استغرقتنا وسائل الإعلام والتواصل بجديدها الذي لا يتوقف ولن يتوقف بطبيعة الحال، وابتعلتنا الحياة بتفاصيلها التي لا تنتهي، وإذا صحّ فعلا ما يُقال من أنَّ "الشيطان يكمن في التفاصيل" فإنني أرى عددا هائلا من الشياطين ومن مختلف الأصناف كامن بقوة في حياتنا المعاصرة بحكم ما فيها من تفاصيل، على أن البحر ليس خُلُوًّا من الشياطين، بل أنا ممن يرى أنه مملكة الجن على هذه الأرض منه ينطلقون وفيه يتكاثرون وتلك -على كل حال- قصة أخرى تحتاج إثباتا من نوع خاص.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم.
---------------------------------
1.استخدام كلمة "الأرض" للتعبير عن المكان هنا ليس استخداما علميا بطبيعة الحال،وإلا فالبحر جزء من الأرض وبالتالي رقعة من المكان،لكنه استخدام اصطلاحي للتفريق بين الاثنين، وقد وجدتُ في ما مضى صعوبة بالغة في إقناع والدتي بأن البحر جزء من الأرض وبأنه ليس منفصلا عنها،وبأن قاع البحر له نفس تضاريس الأرض من جبال ومرتفعات وحفر ومنخفضات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق