الجمعة، 25 نوفمبر 2016

من خواطر البحر 3

ليس ركوبُ البحر متعة وسياحة كما هو شائع عند كثير من الناس،هناك خلْط فادح بين البحر والشاطئ ،الشاطئ جميل ومسالم و"مُستقر" أما البحر فهائج ومضطرب وكئيب في أغلب حالاته.
وعلى من اُبتلي بركوب البحر أن يصمد فلا يجزع، إذ ما فائدة الجزع والسلبية وقدرك الاشتباك مع واقع لا مناص منه، ثم ليفتش بعد ذلك عن ميزة من مزايا البحر -على قلتها- ليدفع بها شرَّ ما سيناله منه، وهو-لاشك- كثير.
لقد ركبُتُ
البحر هذه المرة وفي رأسي تأملات وأسئلة كبيرة لم أجد لها متسعا من الوقت، فعلى الأرض "زحمة" خانقة لا تترك مجالا للتأمل أو التفكير المتسع، وقد اكتشفت من رحلاتي البحرية أن ركوب البحر يمنحني-أحيانا- ميزة نادرة لا أجدها على الأرض/المكان1.
تلك الميزة أسميها "الانفصال عن المكان" أي الإفلات من "قبضة" الأرض بتفاصيلها التي لا تنتهي ويومياتها المزدحمة وخلق مسافة آمنة بيني وبينها، لأعيش تجربة الانفصال تلك بخصوصيتها وما تمنحه من فرصة للتأمل الهادئ، تماما مثل ذلك الطائر البحري الذي هبَطَ خطأ على ظهر سفينتنا وهي تقاوم أمواج المحيط وأصبح عاجزا عن الطيران، سألت أحد البحّارة مستغربا: ما بال هذا الطائر ما الذي أقعده عن الطيران،هل هو مصاب؟ لفَّ لي في ضحكة تهكمية إجابته عن السؤال -والتهكم عادة من عادات هذه "الكائنات" التي تسكن البحر حين تسألها تلك "الكائنات" القادمة من الأرض- أجاب البحار: ليس مصابا بأي شيء، وهو في حالته الطبيعية، لكنه لا يستطيع الطيران إلا حين يلامسُ بريشته ماء البحر!حين ترمي به إلى البحر ستراه طائرا في السماء كبقية الطيور!! وفعلا حدث الأمر تماما كما أخبرني ذلك البحّار،حين دفعناه منْ عَلىَ ظهر السفينة إلى البحر عاد للتّحليق و للطيران!!.
تعجبتُ من الأمر كثيرا ووجدتُ بعض التشابه بيني وبين ذلك الطائر،فكلانا انفصل ولو مؤقتا عن المكان،البحر بالنسبة له والأرض بالنسبة لي،لكننا اختلفنا في التعامل مع اللحظة،سيطر الخوف عليه حتى أقعده عن الطيران رغم أنه سليم الأعضاء ولا فرق بينه وبين الطيور التي يراها تحلق فوقه، أما أنا فقد أتاح لي انفصالي -المؤقت-عن المكان/الأرض القدرة على "التحليق" بعيدا عن يوميات الحياة وتفاصيلها الصغيرة التي لا تنتهي.
والانفصال عن "الشيء" وخلق مسافة دونه عادة قديمة قبل ركوب البحر(الجديد الآن هو استثمارها والاستفادة منها) فقد كنت أثناء دراستي للفيزياء في مرحلة الباكلوريا وبعد ذلك في الجامعة أضع مسافة بيني وبين تلك المادة، وأحاول أن أنفصل عنها وأنظر إليها من الخارج، وكنت ألوم زملائي الطلاب على طريقتهم في الدراسة حيث تستغرقهم المعادلات ويتيهون هناك في "الداخل" دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة للتأمل، أو ما كنت أسميه حينها "المراجعة الحكيمة" لكن تلك "الحكمة" للأسف سأدفع ثمنها بعد ذلك غاليا، فلم يستطع عقلي الصغير آنذاك - ولا يزال صغيرا بالمناسبة- أن يستفيد من تلك المنهجية المتطورة في المراجعة، كل ما حصل هو أنني خلقتُ عداوة بيني وبين الفيزياء و"انفصلتُ" حقيقة لا مجازا عنها وعن مادة الفلسفة التي كنتُ أتعامل معها بنفس المنطق، فكانت نتائجي فيهما متواضعة جدا وضعفت علاقتي بهما، وهو ما أعاني منه اليوم بحُسبان أن الفلسفة والفيزياء بما تتيحانه من منطق فلسفي وعلمي تساعدان كثيرا في التعامل مع هذا "الاجتياح" التأملي الذي يحدث معي أحيانا حين أركبُ البحر وأضع مسافة بيني وبين الأرض.
عندما أكون في البحر على ظهر السفينة فإن علاقتي بالسماء تكون قوية ومثمرة، حين أقلّبُ بصري بين زرقة السماء المتسعة وزرقة المحيط الهائلة تولد الأفكار، فليست هناك تفاصيل كثيرة تلهو بها النفس، ففي ذلك الفضاء تختفي "تفاصيل" الأرض و"أشياؤها" الصغيرة، هنا فضاء الأشياء الكبيرة، لم يعد هناك شاغل عن التفكير، لا بديل عن التفكير والتأمل، ساعتها يبدأ شريط الحياة ومحطاته البارزة، لماذا؟ كيف؟ ومتى كان ذلك؟....و تتبلور الخلاصات.
أما حين أكون على "الأرض" فنادرا ما أنظر إلى السماء، وأذكر هنا أنه خلال هذه السنة التي أو شكت على أن تودعنا، لم أوُفّق للنظر ناحية السماء إلا مرتان، الأولى حين قرأتُ تدوينات لبعض الشباب في "الفيس" يتحدثون فيها عن جمال القمر وبأنه تلك الليلة في قمة الروعة، الثانية حين قرأتُ خبرا من تلك الأخبار العلمية التي يصعبُ علي دائما تصديقها بسهولة -ربما لعلاقتي العدائية بالفيزياء- يقول بأن القمر سيظهر الليلة أكبر من حجمه المعتاد بنسبة 14% كما سيزداد بريقه بنسبة 30 % مقارنة بباقي أيام السنة ، خرجت من المنزل تلك الليلة لأرصد الحدث وقد أدركتُ القمر في نهاية "دوامه" يستعد للمغادرة، يقتفي خطى الشمس كعادته في "مطاردة" أبدية لا تتوقف، ولم ألاحظ شيئا ذا بال!
خارج هذين السياقين لا أذكر أنني خلال الأشهر الماضية التي كنت فيها في قبضة "المكان" قررت أن أتوجه ببصري إلى السماء بمحض إرادتي والأخطر من ذلك: لا أذكر أنني أخذت وقتا للتأمل بهدوء في قضية معينة خصوصا تلك القضايا الكبيرة التي تستحق التفكير المتروي.
إننا في عصر خِلْو من التأمل والتدبر والنظر، استغرقتنا وسائل الإعلام والتواصل بجديدها الذي لا يتوقف ولن يتوقف بطبيعة الحال، وابتعلتنا الحياة بتفاصيلها التي لا تنتهي، وإذا صحّ فعلا ما يُقال من أنَّ "الشيطان يكمن في التفاصيل" فإنني أرى عددا هائلا من الشياطين ومن مختلف الأصناف كامن بقوة في حياتنا المعاصرة بحكم ما فيها من تفاصيل، على أن البحر ليس خُلُوًّا من الشياطين، بل أنا ممن يرى أنه مملكة الجن على هذه الأرض منه ينطلقون وفيه يتكاثرون وتلك -على كل حال- قصة أخرى تحتاج إثباتا من نوع خاص.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم.
---------------------------------
1.استخدام كلمة "الأرض" للتعبير عن المكان هنا ليس استخداما علميا بطبيعة الحال،وإلا فالبحر جزء من الأرض وبالتالي رقعة من المكان،لكنه استخدام اصطلاحي للتفريق بين الاثنين، وقد وجدتُ في ما مضى صعوبة بالغة في إقناع والدتي بأن البحر جزء من الأرض وبأنه ليس منفصلا عنها،وبأن قاع البحر له نفس تضاريس الأرض من جبال ومرتفعات وحفر ومنخفضات.

الاثنين، 14 نوفمبر 2016

كم من ذراع للأخطبوط الموريتاني ؟

إنه الصّباح الذي يأتي قبل أوانه، مع نسائم الفجر البريئة، يبدأ البحّارة والمرتبطون بهذه المهنة التَّوافد على الشاطئ، ومع انبلاج فجرانواذيب وقليل من ضوء النهار يكون المشهد قد بدأ في الاكتمال، قوارب الصيد التقليدي تملأ المكان وتستعد للإبحار، ربما يكون هذا أكبر موكب إبحار على طول الشواطئ الموريتانية، إنه مشهد افتتاح الصّيد بعد توقيفه، إنه الحجُّ إلى الأخطبوط الموريتاني!
فسيولوجيا للأخطبوط  ثمانية أذرع، لا أزيد ولا أقل، لكنه في واقع أهل الصّيد والمرتبطين بهذه المهنة له أكثر من ذراع!
إنه كائن المفارقات العجيبة؛ فهو من أكثر الأنواع البحرية التي تعاني فرط استغلال حسب الدراسات العلمية، وفي نفس الوقت هو الكائن البحري الأكثر تصديرا وعائدات مادية من بين جميع الأنواع البحرية، ففي دراسة إحصائية للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك SMCP في الفترة من 1992 إلى 2015 شكلت العائدات المادية لهذا الكائن البحري لوحده - تقريبا-  حوالي تريليون من الأوقية؛ أي ميزانية الدولة الموريتانية في أكبر أرقامها  لسنتين وزيادة!
 إنه الكائن البحري الأكثر استهدافا بالصّيد، فكل الأسطول الوطني للصّيد يستهدفه، من صيد صناعي وتقليدي وشاطئي، وحتى الأساطيل الأجنبية كانت تستهدفه بالصّيد حتى 2012 إذ تم منع صيده من طرف الأساطيل الأجنبية وأصبح خالصا للموريتانيين.
 الأخطبوط من بين الكائنات البحرية الألذّ لحما والأشهى طعما، لكن ليس  للموريتانيين حظ من ذلك، نتيجة العادات الغذائية العجيبة، وهي عادات تنظر إلى الشكل الخارجي للكائن البحري أكثر من أي شيء آخر! وقد عَلِمنا أنّ الأخطبوط  لم يُؤتَ حظّا من جمال الشكل. إنه الكائن الأكثر غموضا في تنقلاته وديناميكية مخزونه، الكائن الذي نُسجت حوله الأساطير وأفلام السينما وقدمته على أنه خارق الذكاء والقوة ولكنه في الواقع  كائن رخو ليّن لطيف.

قليل من بيولوجيا الأخطبوط :
الأخطبوط المعروف محليا ب "طاكو" أو "بولب" أحد أهم الأحياء البحرية القاعية في الشواطئ الموريتانية، ينتمي الأخطبوط  Octopus vulgaris  إلى مجموعة اللافقاريات،  شعبة الرخويات، وإلى صفّ رأسيات الأرجل، حيث يتصل الرأس مباشرة  بالأرجل دون باقي الجسم (الصدر والبطن) وإلى عائلة أوكتوبوديداي المُبجّلة.
يتميز الأخطبوط  بدورة حياة قصيرة، إذ يتراوح عمره من سنة إلى سنة ونصف وينمو  بشكل سريع؛ بمعدل 11 غرام في اليوم، وتعتبر الأفراد غير البالغة تلك التي يقل وزنها عن 500 غرام حيث يُحرّم صيدها.
يعرف عن الأخطبوط بأنه يتيم المولد ! حيث يقوم الذكر بوضع الحيوانات المنوية في كيس لدى الأنثى ليموت بعد ذلك بعدة أشهر، ويتم تلقيح البيض داخل الأنثى وأثناء فترة حضانة البيض تمتنع الأم عن الأكل والافتراس وتتفرغ لحراسة ومراقبة بيضها حتى أنها تقوم بدفع التيار المائي نحو البيض لتأمين وصول الأكسجين إليه حتى تخرج الصغار ! تضع الأنثى حوالي 400 ألف بيضة خلال حياتها.
بتعبير آخر؛ كل الخطابيط في بحار الدنيا يتيمة الأم وبالتالي فهي لا تُعلّمهم ولا تُلقّنهم ما اكتسبته من التّجارب، إنّ في ذلك لآية!

صيد الأخطبوط:
بدأ استغلال الأخطبوط في موريتانيا في الستينيات من القرن الماضي في المنطقة الشمالية ليشهد بعد ذلك تطورا كبيرا، يُصطاد الأخطبوط أساسا بواسطة القدور البلاستيكية pots à poulpe   وكذا شباك الجرّ القاعي، كما يُصطاد ثانويا مع المصايد الأخرى، تعاني هذه الثروة القاعية المهمة من فرط استغلال منذ عشرات السنين حسب الدراسات التي يجريها المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد IMROP لذلك اعتمدت الوزارة المعنية بناء على تلك الدراسات ما يعرف ب "توقيف الصيد"arrêt de pêche  أو الراحة البيولوجية، والتي تستهدف حماية هذه الثروة المهددة عن طريق توقيف صيدها في فترتين من السنة تقابلان فترات التكاثر ونمو الأفراد غير البالغة.
تشير آخر دراسات المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد إلى تحسن في ثروة الأخطبوط، إذ تؤكد المؤشرات المتعلقة بالكتلة الحية، وكذا بالمردودية وأحجام الأفراد المُصطادة  تعافي مخزون الأخطبوط ، وإعادة بناء تدريجي للمخزون منذ 2006 ، لكن هذا التحسن  يظل دون المأمول إذ تبقى الكميات التي يتم صيدها سنويا تفوق قدرة  المخزون على البقاء والتجدد، ويمكن اعتبار هذا التعافي النسبي مؤشرا على نجاعة وأهميات الإجراءات الاستصلاحية لحماية هذه الثروة، والتي من أهمها توقيف الصيد فترتين في السنة وكذا استثناء الأساطيل الأجنبية من صيد الأخطبوط.

قليل من الاقتصاد:
  تُعتبر اليابان واسبانيا من أهم الدول التي تُصدّرُ إليها هذه الثروة، حيث يعتبر الأخطبوط من الوجبات الشائعة والمفضلة لدى تلك الشعوب نظرا لطعمه اللذيذ وقيمته الغذائية المرتفعة وغناه بفيتامين B12 و B3، في إحصائية للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك كان الحجم الكلي لصادرات رأسيات القدم التي ينتمي إليها الأخطبوط من 1992 إلى 2015 حوالي 778 ألف طن، يشكل منها الأخطبوط لوحده حوالي 80%.
في نفس هذه الفترة كانت مداخيل جميع الأنواع البحرية التي تم تصدريها بواسطة الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك حوالي 4.24 مليار دولار، 88% من تلك القيمة جاءت من رأسيات القدم، شكل الأخطبوط  لوحده 3.23 مليار دولار، أي ما نسبته 76% من كل الصّادرات السمكية في موريتانيا في هذه الفترة.
ذلكم قليل من خبر الأخطبوط الموريتاني، خلاصته أن ليس للأخطبوط ثمانية أذرع فحسب، بل له أكثر من ذلك، أذرع تضرب بسهم في السّياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم ... فلا يكاد يسلم منه مجال! عليه عُلّقت الآمال وعاش الرجال وبنوا ثرواتهم، حطّم آمال آخرين وخيب التوقعات في أكثر من مرة، لكن ذلك الكائن الرّخوي الجسم كان وسيبقى أحد أهم وأشهر الكائنات البحرية في موريتانيا، أولاها بالشفقة من كثافة جهد الصيد، باستمرار وتعزيز إجراءات الحماية، وإن جاز شكرُ كائن بحري موريتاني –وهذا شيء قد يكون بلا معنى، وقد يكون كل المعنى- فهو أولاها بالشكر، شكرا أيها الأخطبوط فإن من ورائك أرزاق الناس وحياتهم، من ورائك آلاف البّحارة وآخرين من خلفهم وأنت صابر "محتسب" تعاني كثافة جهد الصيد وتنوعه.