الاثنين، 9 ديسمبر 2019

البحرُ الموريتاني؛ ثراءُ البيئة وفقرُ الإنسان !

ظلَّ الموريتاني يولّي بظهره للبحر طويلا، وينظر إليه على أنه مجرّد جسم غريب يستلقي بعيدا في وِحدَته الأبدية، وتضع كتلته المائية الضَّخمة حاجزا جغرافيا صارما لامتداد اليابسة ناحية الغرب.
لذلك لم يتغنَّ الشعراء عندنا بالبحر، لقد كانت الجبال والهضاب والوديان وغيرها من أشكال الطبيعة وتمظهراتها أكثر حضورا منه في الوجدان المجتمعي والذاكرة الأدبية، رغم أن البحر يضجُّ في باطنه بالثروات والأرزاق من أسماك ومعادن، وتلفُّ ظاهره زرقة فاتنة تسحر العين حين تذوب في أحضانها أشعة الشمس الذهبية، وفي ملمحه العام من مظاهر الجمال والاتّساع والقوة ما يُغري الأديب باستدعاء الصُّور البديعة، لكنها النظرة الجافية لابن الصحراء للماء ومتعلقاته طَبَعَت العلاقة بالبحر؛ فكان ارتباط الموريتاني وحنينه مقتصرا على الجزء اليابس من أرضه، موليّا ظهره ووجدانه للبحر.
ومع أن البحر الموريتاني يمتدُّ على طول أكثر من 700 كلم، وتشغل مياهه مساحة 234  ألف كلم مربع، أي ما يزيدُ على 20% مقارنة بمساحة اليابسة، ويُحاذي مدينتين من أهم وأكبر المدن الموريتانية (انواكشوط وانواذيب) ظلّ هذا الكائن الضّخم في منأى عن التفاعل الجَمعي، وكانت حالاتُ التّلاقي التي ارتبط أهلها بالبحر وأنتجت تقاليدها البحرية الخاصة محدودة جدا، إذ اقتصرت على مجموعتي "إيمراكن" في الشمال و"الولوف" في الجنوب.
 ومع أن موجات الجفاف في السبعينيات والثمانينيات، وحركة التّمدن المتسارعة حملت الناس إلى الاستقرار في العاصمتين المُطلّتين على السّاحل، إلاَّ أن ذلك لم يُثمر علاقة بالبحر، واقتصرت حالاتُ التّواصل على صيّادين تقليديين -أغلبهم من غير الموريتانيين- يتتبّعون بقواربهم الخشبية مظانًّ الأسماك، وعلى خرجات محدودة لمواطنين في عطلة نهاية الأسبوع، تبقى أقدام أغلبهم مثبّتة على تربة الشاطئ، تُربكهم الدهشة ويقيّدُهم الخوف عن التواصل ونسج الروابط مع هذا الكائن المعطاء العملاق.
ولعلّ من الملاحظات العجيبة الدّالة في هذا السياق؛ أنّ شواطئ الدُّنيا كلها تضجُّ بالناس والعمران والمنشآت السياحية، مما أصبح يشكل تحديا عالميا توضع له المقاربات التسييرية (ICZM) للتخفيف من آثاره السلبية على البيئة البحرية، غير أن شواطئ موريتانيا تكاد تكون الاستثناء، فهي جرداء مقفرة، إلا ما كان من قُرى ضئيلة متناثرة لا تعكس حالة عامة ولا ثقافة بحرية راسخة.
 وهكذا في المُحصّلة لم تُنتج موريتانيا تقاليدها البحرية الخاصة، وظلت في منأى عن البحر، رغم أن الأخير ثابت لم يُغيّر من مكانه، تصرخُ أمواجه في حركتها الأبدية: أنا هنا أيها الموريتاني، فهل إلى تلاق من سبيل؟ 


الثّراء بالأنواع البحرية:
من "الرأس الأبيض" شمالا على التخوم المغربية، إلى "اندياغو" جنوبا على الحدود مع السنغال، تمتد السواحل الموريتانية مُطلّة على المحيط الأطلسي، حبا الله المياه البحرية الموريتانية ببعض الخصائص البيئية والفيزيائية الفريدة، مما جعلها واحدة من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك والأنواع البحرية الأخرى، وليس ذلك من المبالغات؛ على غرار بعض الألقاب الكبيرة الأخرى التي وُصفت بها المنطقة، بل هو حقيقة علمية مسطورة في أهم الكتابات والوثائق العلمية التي تتناول البحر الموريتاني بالرّصد والدراسة.
ففي معلومات أولية غير نهائية1 تم إحصاء أكثر من 700 نوعا من الأسماك، منها 170 قابلة للتسويق التجاري، 33 نوعا من الثدييات البحرية من أصل 34 هي كل ما تم رصده في شواطئ إفريقيا الغربية، 200 نوعا من الطحالب وأكثر من ذلك من الطيور البحرية.
 وتشكل محمية "حوض آركين" أحد أكبر الأماكن العالمية لتجمعات الطيور، تحُجُّ إليها من أصقاع الدنيا لقضاء موسم الشتاء، وتحتضن المحمية أيضا أكبر تجمع عالمي من الأعشاب البحرية من نوع (prairie de zostères)،  ويُؤوي "الرأس الأبيض" أهم مستعمرات عجل البحر الأبيض المتوسط Monachus monachus وهو أحد الثدييات البحرية الأكثر تهديدا بالانقراض على مستوى العالم، لم يتبق منه سوى 500 فردا نصفها تقريبا تعيش في أجراف الرأس الأبيض بموريتانيا؛ تلك لمحة مختصرة وصورة من صُوّر الثّراء بالأنواع البحرية تزخر به المياه البحرية الموريتانية في هذا الجزء من صحراء إفريقيا القاحلة.
الغِنى المُنبثق من الأعماق:
تتميز المياه البحرية الموريتانية بعدة خصائص بيئية، تجعل منها واحدة من أغنى المناطق البحرية في العالم بالأسماك، ولعل من أهم هذه العوامل ما يعرف بظاهرة الأبويلينغ upwelling، نتيجة بعض العوامل الفيزيائية وحركة الرّياح وما تتركه من فراغ في المياه السطحية، تصعد الكتل المائية الباردة من الأعماق إلى الأعلى، مُحمّلة بالمُغذّيات، لتحلّ محلَّ المياه السطحية الأكثر دفئا، مما يتسبب في وفرة العناصر المغذية على السطح، الأمر الذي يرافقه وفرة في نمو العوالق النباتية مستفيدة من ضوء الشمس، وكذا نمو الكائنات الحية الدقيقة الأخرى التي تعدُّ بداية للسلسلة الغذائية مما ينعكس على باقي الكائنات الحية كالأسماك تنوعا ووفرة، توجد هذه الظاهرة في أربع مناطق من العالم، من بين أهمّها تلك التي تحدث في الشواطئ الموريتانية، حيث تستمر ظاهرة الأبويلينغ طوال السنة في المنطقة الشمالية وحوالي 9 أشهر في المنطقة الجنوبية قرب انواكشوط.


نِعمةُ اللُّقيَا على ميعاد:
في المياه الموريتانية يلتقي التيار الكناري البارد القادم من الشمال بالتيار الغيني الحار القادم من الجنوب، هذا اللقاء على ميعاد يُوفّر بيئة ملائمة لنموّ وتكاثر العديد من الأسماك، سواء تلك الباحثة عن الدفء أو البرودة، أو تلك التي تبحث عن ظروف مناخية خاصة نتيجة لحركة الجبهة المدارية من الشمال إلى الجنوب، ففي هذه المنطقة تتكثّف أسراب السردين التي تستقطب باقي عناصر السلسلة الغذائية من المفترسات، كالطيور البحرية وأسماك القرش والحيتان وأسماك السيف، مما جعل المياه الموريتانية تحتضن تنوعا بيولوجيا غنيا وفريدا من نوعه.
المحميّة والشّعاب المرجانية:
من العوامل الأخرى التي تُسهم في هذا الغنى والثراء بالأنواع البحرية، وجود محمية حوض آركين التي تُعتبر واحدة من أكبر المحميات البحرية في شمال إفريقيا، يُحرّم فيها صيد القوارب ذات المحركات، وتلعب دورا هاما في المحافظة على التنوع الأحيائي في المياه الموريتانية، حيث تشكل موئلا للعديد من الأنواع البحرية، تفِدُ إليها للغذاء والتكاثر. وتشكل الأعشاب البحرية التي تزخر بها المحمية دورا هاما في الإنتاج الأولي وغذاءً للكثير من الأنواع البحرية كالأسماك والثدييات والطيور البحرية؛ ففي دراسة علمية2 تبين أنّ كل 140 كلم مربع من الأعشاب البحرية في قرية "إيويك" بحوض آركين تأوي حوالي 400 مليون من صغار القشريات.
 كذلك من عوامل الغنى الأخاديدُ البحرية التي تؤوي الشّعاب المرجانية، حيث اكتشف في موريتانيا مؤخرا على سفح المنحدر القاري وعلى طول أكثر من 400 كلم وعمق 600 متر واحدة من أكبر الشعاب المرجانية في المياه الباردة العميقة في العالم3 وتُوصف الشعاب المرجانية في الأدبيات العلمية بأنها "مهندسو النظام البيئي" نظرا لدورها الكبير في إغناء المنطقة وما تستقطبه وتحتضنه من تنوع بيولوجي كبير.
اجتمعت هذه العوامل البيئية الفريدة وغيرها في المياه الموريتانية فصارت بذلك واحدة من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك، لكنّ السؤال الواردَ هنا في مُقابل هذا الثراء بالأنواع البحرية هو: أين الإنسان الموريتاني من كلّ هذا الغنى؟
تقديراتُ الثروة السمكية:
تزخر الشواطئ الموريتانية بالعديد من الأنواع البحرية من أسماك ورخويات وقشريات وأنواع أخرى، ففي المياه الموريتانية وفي بيئة فريدة، يلتقي الأخطبوط مع الكُوربين وسمك موسى وأسماك القرش والحبّار وسلطان إبراهيم والنّازلي والجمبري وأسماك السّردين وجراد البحر والأنشوفة وأسماك التونة وسمك البوري والمرجان وغير ذلك من الأنواع البحرية النّبيلة وأخرى دون ذلك، وتتراوح القدرة الإنتاجية السنوية من الثروة السمكية الموريتانية ما بين 1.5 إلى 1.8 مليون طن4 يمكن صيدها سنويا من أسماك السطح والأعماق مع المحافظة على قدرة المخزون في التجدد بشكل طبيعي.
إن هذه الوفرة الفريدة والقدرة الإنتاجية المُعتبرة ظلت في منأى عن الاستغلال المُثمر، فأغلب الموريتانيين، خصوصا سكان المناطق الداخلية، لم يتذوقوا في حياتهم من أسماك هذا البحر المعطاء سوى أنواع غير نبيلة وفي السنوات الأخيرة فقط، ولا يعرفُ الموريتاني إلاّ بضعة أنواع تعدُّ على أصابع اليد من بين أكثر من 700 نوع بحري، كما أنّ هذا الموريتاني أيضا لا يعرفُ شيئا عن الرخويات؛ وهي ألذُّ الأنواع البحرية وأشهاها على الإطلاق.
ثقافة غذائية فقيرة على ضفاف بحر زاخر:
هذه الحالة ما هيّ إلا نتيجة الثقافة الغذائية البدائية لدى الموريتاني؛ ثقافة تنظر إلى شكل السّمكة الخارجي كواحد من أهم عناصر الاختيار لتكون على مائدة الطعام، فإن كان النوع البحري لم يُعط حظُّا من جمال الشكل كالأخطبوط مثلا، فإنه حرام على موائد الموريتانيين، رغم أنه لحم طريّ غنيُّ بالبروتينات يُسيل لعاب اليابانيين والأوربيين وغيرهم من الشعوب ذات الثقافة الغذائية السليمة، لذلك يُصدّرُ الأخطبوط الموريتاني للخارج بنسبة 100% تقريبا، ويُقدّم على الأطباق العالمية كواحد من أطيب وأشهى المأكولات البحرية، مما زاد من قيمته المادية فاستقطب أغلب نشاط الصّيد الموريتاني وجلبَ المال الوفير، ففي إحصائيات للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك SMCP لسنة 2017 تم تصديرُ أكثر من 38 ألف طن من الأخطبوط بقيمة تجاوزت أكثر من 117  مليار أوقية!
 إن هذه الثقافة البحرية الفقيرة ألقت بظلالها الوارفة على علاقة الموريتاني بالبحر ونظرته لثروته السمكية مقارنة بباقي الثروات الحيوانية، ولعلّ من الأمثلة الرمزية الدّالة في هذا السّياق ما كان من صُوّر الحيوانات المطبوعة على العملة الموريتانية الجديدة، فحين أصدرت الدولة الموريتانية عملتها النقدية الجديدة جيءَ بالغنم والبقر والإبل مطبوعا على الوحدات النقدية والأوراق من الفئات العليا وبسمكة وحيدة على أصغر قطعة نقدية وأقلها قيمة (خمس الأوقية 1/5) ، مما يعني أن صورة تلك السمكة المسكينة الحزينة، لن تعْلق بوجدان أحد من الموريتانيين، فخُمس الأوقية بحكم واقع السوق الموريتانية شيء تافه لن يظهر في التداول اليومي للقطع النقدية.
أما التصنيع وتطوير المنتوجات البحرية فيكفي من بؤس حاله أنّه من بين آلاف أطنان الأسماك يتم صيدها سنويا، لم تستطع موريتانيا بعدُ أن تُصنّع من تلك الكميات الهائلة من الأسماك علبة سردين واحدة لا يتجاوز وزنها بضعة غرامات؛ إنّ هذا حقا لشيء عجاب!
 وحتى مهنة الصّيد بقيت في منأى عن الموريتاني، الموريتاني الذي نقّب في باطن الأرض بحثا عن المعادن، وطَار إلى كل بقاع الدُّنيا تتبُّعا لكل أصناف الرّزق لا يزال عاجزا عن امتهان حرفة الصيد والضّرب في مناكب البحر استغلالا لثروة سمكية مُتجدّدة أنهكتها الأساطيل الأجنبية، تقبضُ منها حيث تشاء وكيفما اتّفق!
إنها باختصار المفارقة الحزينة المستلقية أبدا على هذا الجزء من المحيط الأطلسي، إنه ثراء البيئة وفقر الإنسان، وليس في الأفق القريب ما يُبشّر بزوال هذه المفارقة؛ فالثقافة البحرية للإنسان الموريتاني لا تزال ضحلة فقيرة، سواء في أصل النظرة للبحر وأسماكه، أو في الثقافة الغذائية المُوغلة في استهلاك اللحوم الحمراء، كما أنّ تسيير الثّروة السمكية لا يزال يطبعُه التّعثر، والشواطئ التي كانت تُوصف في الأدبيات العلمية بأنها من بين الشواطئ الأغنى بالأسماك يتهدّدها اليوم الاستغلال المُفرط وتستقطب عشرات الأساطيل، من الرّوس إلى التّرك إلى الأوربيين والصّينيين والأفارقة وغيرهم من أمم الدّنيا، ممّن دفعهم نفادُ المخزونات السّمكية في مياههم البحرية للصّيد المكثّف في المياه الموريتانية، ولاتزال عالقة في الذهن تلك الصورة الحزينة لمذبحة أسراب سمكة الكوربين، قبل أكثر من سنتين في فيديو قصير تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي لسفن صيد تركية ألقت بشباكها الدّوارة على أسراب بريئة من أسماك الكوربين قادمة للمياه الموريتانية في موسم تكاثرها.
 ....................
المراجع:
1 . Rapport provisoire de synthèse du huitième groupe de travail sur l’évaluation des ressources et l’aménagement des pêcheries mauritaniennes et la gestion de leur environnement, IMROP 2014.
2 . Schaffmeister, B.E., Hiddink, J.G., Wolff, W.J., 2006. Habitat use of shrimps in the intertidal and shallow subtidal seagrass beds of the tropical Banc d’Arguin, Mauritania. Journal of Sea Research, vol. 55, 230-243.
3 . Eisele M., Frank, N., Wienberg, C., Hebbeln, D., Lopez Correa, M., Douville, E., Freiwald, A., 2011. Productivity controlled cold water coral growth periods during the last glacial off Mauritania. Marine Geology, vol. 280, 143-149.
4. Stratégie nationale de gestion responsable pour un développement durable des pêches et de l’économie maritime 2015-2019, MPEM 2015.UN DEVELOPPEMENT


الثلاثاء، 15 أكتوبر 2019

ثورة المكان، قصّة قصيرة


انواكشوط الخامس، المعروف اختصارا في الترقيم الدّولي للمدن ب NKC5، هو مدينة مبنية بالكامل في الهواء، مستندة على جزء يسير من اليابسة هو كل ماتبقى بعد غمْر أجزاء كبيرة من موريتانيا على إثر الذوبان الثالث لجليد القطبين سنة 2450 للميلاد، وهو الحدث البيئي الّذي غيّر خارطة موريتانيا والعالم أجمع، وقضى على ملايين البشر، وعلى إثره، تضاءلت مساحة اليابسة بشكل هائل، وبلغت أسعار المتر المربع منها مبالغ خيالية.
لاأحد في هذه المدينة المُتراقصة الألوان يهتم بشروق الشمس أو غروبها، فالمنازل المعلّقة في الفضاء على شكل حدائق خضراء، تُوفّر خدمة مُتابعة المشاهد الطبيعية كلّها من خلال الاشتراك في برنامج "طبيعة Nature" لدى المؤسسة الموريتانية لمحاكاة الطبيعة SMSN.

المدينة أيضا رغم حركيتها الهائلة فإنها تغطّ في هدوء كبير، مستفيدة من برنامج حجْب الأصوات wv الذي تُوفّره مجانا الهيئة الموريتانية لمحاربة التلوث الصوتي MOCNP.

في حي "البحر الهادئ" المطلّ على اليابسة، توجد قاعة فسيحة تُسمّى قاعة "بثّ الأشجان"، وهي قاعة يفِدُ إليها الشباب الموريتاني لبثّ أشجانه، حيث يختار كلّ واحد منهم من يلتقيه للحديث معه، بناء على معلوماته واهتماماته المتوفرة على المنصة الرّقمية share، والحقيقة أنّ قاعات بثّ الأشجان كانت في الأصل فكرة الفتاة مريم، تبنّاها عمدة بلدية "البحر الهادئ" السيد "شريف سوخونا" المنتخب حديثا، ومريم هي فتاة عشرينية، سريعة الحركة، كأنّها مكلّفة بالرّكض أبدَ الدّهر، ذات جمال مشتّت، فليس لأي عضو في جسمها النّحيف جمالا ذاتيا خاصّا به، إنما هو "جمال عام" يشعر المرء إزاءه بالارتياح، ولعل هذا، بالإضافة إلى لغتها الرّشيقة وأفكارها البديعة، ما جلب لها شعبية كبيرة لدى الشباب الموريتاني على منصة share الرقمية، وقد استفادت مريم من صدور دراسة علمية مثيرة عن معهد "جا" لدراسة نفسيات الكائنات الافتراضية في مدينة تمبدغة، بقيادة أخصائي علم النفس الشهير حبيب مولاي، وهي الدراسة التي أثارت جدلا واسعا، حيث قدّمت أرقاما مخيفة عن نسب الاكتئاب والقلق النفسي بين الشباب الموريتاني، الغارق في برامج محاكاة الواقع الطبيعي SPR حتى أخمص قدميه، كانت مريم تُقدّم بلغتها الرّشيقة أمثلة مؤلمة لا يخلو بعضها من طرافة؛ حيث تذكُر الدراسة وجود ظاهرة نفسية جديدة لدى الشباب الموريتاني تُسمّى الرغبة الهائلة في الكلام، حيث إن الحياة الرقمية المعاصرة وما تتيحه من وسائط تواصل رقمية حوّلت الشباب الموريتاني إلى كائنات لا تعرف الكلام!
في قاعة بثّ الأشجان؛ جلس "محمّد"، وهو شاب طويل القامة مدوّر الوجه على درجة عالية من الأناقة واللّباقة، جلس في مقابل "عادل" على كراس خشبية، وعادل شاب ضخم البنية، يخيّل للناظر إليه أنه غارق في تناول الوجبات السّريعة وإدمان الأفلام خماسية الأبعاد، بدأ الإثنان حلقة بثّ الشجن، وهي لحظة إنسانية نادرة جدا في حياة الناس اليوم؛ تحدّثا عن مشاكلهما الذاتية، والتي تدور كلّها حول الفراغ الإنساني الهائل الذي يعيشانه، ووطأة الحياة المعاصرة وبؤس الرفاهية الرقمية التي أفرغت الحياة من كل المعاني الإنسانية النبيلة؛ كالشجاعة والكرم والذكاء والحب...، لكنّهما مع ذلك ناقشا بعض القضايا العامة التي تطرح نفسها بقوّة في الساحة الموريتانية، مثل أطروحة الدكتوراة التي ناقشها زميلهم محمد عالي من معهد الإمام ابن حزم للفقه المعاصر في مدينة أكجوجت، حول "مفهوم المكان في الفقه المعاصر" وهو النقاش الذي أثار جدلا واسعا في المُجمّع الفقهي الوطني، وذلك بعد فتوى مثيرة لأحد أعضائه، يتحدث فيها عن أنّ "أماكن العبادة الافتراضية" التي أصبح يرتادها كثير من شباب اليوم لأداء الصّلاة، وهي أماكن تُحاكي بدقة عالية المساجد التقليدية في كل شيء (مكان الصلاة، الجماعة، الإمام، الأذان...) أن لها نفس فضل المساجد التقليدية من حيث الأجر.
بعد حصّة بثّ الشّجن، ذهب محمّد وعادل إلى "متحف السّفر في الماضي البعيد" وهو أحد أهم إنجازات الرّئيس الموريتاني الحالي "خالد يوسوفا"؛ يُتيح المتحف السّفر عبر الماضي من خلال الغمْر immersion في واقع يُحاكي بدقّة هائلة لحظة الماضي المختارة.
اختار عادل أن يذهب إلى سنة 2057 بالتّحديد، ويتجوّل في أحياء "تنسويلم" قبل الحرب العرقية بثلاث سنوات، ويشرب الشّاي مع إحدى جدّاته البعيدة من خلال تقنية "اشرب ما تشاء" حيث يُمسك بكأس الشّراب وتتولّى برامج محاكاة الواقع التكفل بالطّعم والرائحة! كان مندهشا جدّا من حياة أجداده، ومن الفائض الهائل في الزّمان والمكان الذي كان يطبع حياتهم، كان كلّ شيء بالنسبة إليه أكبر من حجمه الطبيعي بكثير.

أمّا محمّد فقد اختار الدّخول إلى حساب جدّه البعيد، في برنامج يسمّى يومها "فيسبوك" ويتجول في أروقته، ليقرأ ما كان يُكتب يومها، كان يموت من الضحك وهو يرى الناس تتحدّث عن ما يسمّى انقطاع الكهرباء، وكيف أنّ حياتهم كانت مرتبطة كثيرا بهذا الحدث التافه، هو يعلم اليوم أن لا وجود لما يُسمّى الكهرباء، فمع برامج محاكاة الواقع، ومن خلال كتابة رقم بسيط، يضيء المكان بالدّرجة واللّون الضّوئي الذي يُريده صاحبه، أما شحن الهواتف، والذي كان فيما يبدو يُلحق ضررا كبيرا بروّاد "الفيسبوك" عند انقطاع الكهرباء في موريتانيا، فهو بحق أمر مثير للضحك، فقد اختفى الهاتف نهائيا وحلّت محلّه شرائح الكترونية متناهية الصّغر، يتمّ زرعها في الأصابع وتقوم مقام الهاتف، مربوطة بالويفي wifi الكوني المجاني المبثوث في الفضاء، كان في منتهى الاستغراب وهو يتأمل صورة شاركها جدّه على حسابه لهاتف من نوع "سامسونغ" مع الشّاحن الكهربائي، كانت فكرة الشاحن بالذات تثير لديه رغبة عارمة في الضحك، وكذلك حجم الهاتف الضخم مقارنة بأجهزة هذا الزمان، التي تحوّلت كلها إلى شرائح متناهية الدقة.
بعد انتهاء حصّة السّفر عبر الماضي، جلس محمد وعادل في قهوة المتحف، والمتحف يوفّر خدمة القهوة الواقعية؛ أي التي يجلس أصاحبها على كراسي وجها لوجه، ويأتيهم النّادل بالقهوة، وهي بطبيعة الحال غالية جدا؛ فكل خدمة يتم فيها الاقتراب من الحالة الواقعية الطبيعة تكون أغلى، جلسا ليستمتعا بشرب القهوة، في الطرف المقابل لهما تجلس فتاة ممتلئة الجسم -وهي حالة نادرة جدا لدى فتيات اليوم- مُحايدة الملامح، غير أنّ في عينيها بريقا مُبهرا، ما إن لمحها محمّد حتى وقع في أسر عينيها، وأحسّ بشعور داخلي دفين، وبرغبة هائلة في الحديث إليها، فقبل جلسة "بث الأشجان" هذه، لم يتحدّث مباشرة مع أحد منذ أشهر، كان عند الفتاة نفس الرغبة، حين تقابلت عيونهما انهمَرت بالبكاء، كان بكاء جميلا رغم كثافته، فكل شيء واقعي عند محمّد أصبح جميلا، حتى ولو كان بكاء! أخذت الفتاة تشكو غربتها ووحدتها، رغم أن لديها آلاف الصّديقات على منصة share، يتحدّثن معها يوميا، غير أنها كانت تفتّش عن الإنسان الواقعي، حدّثاها عن فكرة بث الأشجان، فاستحسنتها ووعدت بالمشاركة فيها، تم تبادل العناوين الرّقمية بسرعة هائلة، فقد كانت الفتاة مدعوة لمعرض صوّر منحوتة على الثلج، تحت عنوان "غرق بوتلميت" يتتبّع فيه رسّام موريتاني شاب اللّحظات الإنسانية الأخيرة والصّعبة لسكان بوتلميت بعد موجة ذوبان الجليد. 
انقضى ذلك اليوم بطيئا على غير عادة الأيام في انواكشوط الخامس NKC5، المدينة التي لا تنام ولا تستيقظ، لقد كان لتلك المحادثات والجلسات الواقعية أثرها الكبير على محمّد وعادل، أحسّا بسعادة غامرة.. وهكذا بعد أيام التهمتهُما فيها حركة المدينة المعاصرة الهائلة وأغرقتهما من جديد في برامج محاكاة الواقع البائسة، قرّرا توسيع التواصل مع شباب آخرين، لتأسيس تيار يدعو للعودة إلى حياة ماقبل الثورة التكنولوجية الرابعة، سميّاه تيار "المكان space"
بعد ذلك بفترة طويلة، كانت مريم تتحدّث في لقاء جماهيري، هو الأول من نوعه منذ مئتي سنة، حيث كانت أوّل مرة يجتمع فيها الناس على أرض واحدة وجها لوجه، كان حدثا رائعا لم يتمالك قادة تيار المكان، مريم وعادل ومحمد وكان ويوسف وركّي دموعهما وهم يرون كيف أثمرت أفكار تيار "المكان" واقتنعوا أن ثورة جديدة توشك أن تنتفض على برامج محاكاة الواقع التي أرهقت الإنسان، كان الشباب في الدّول الأخرى يتباشرون بهذا التيار، ففي أفريقيا الجديدة بدأ الحراك في سبع دول من أصل ثلاثة عشر دولة هي كل دوّل افريقيا الجديدة بعد ذوبان الجليد، غير أن حدثا في الشّرق هزّ منطقة "الخليج اليابس" سيغيّر مجرى الأحداث فيما يبدو بدرجة لا يمكن تصوّرها..
الساعة الثامنة مساء، في غرفة معلّقة بالطابق رقم 179 في حي "ولاتة" الاصطناعي، يجلس "يوسف" على كرسي أبيض ويقرأ في نسخة ورقية من ديوان المتنبي، لعلها تكون الكتاب الورقي الوحيد في موريتانيا كلها، يقرأ بصوت مرتفع، وهي عادة ورثها عن أجداده، فرغم أن المنصّات الرقمية الشِّعرية توفر الآن من خلال نظام خوارزمي عالي الدقة، خدمة مشاهدة الشاعر يقرأ قصائده تقريبا كما كان يومها، إلاّ أنّ يوسف كان يُفضّل أن يقرأ بصوت مرتفع في ديوان المتنبي الورقي، فقد أحبّ هذا الأمر بشكل لا يتصور، أخذ يوسف يصيح في غرفته بصوت مرتفع :
صَحِبَ النّاسُ قَبلَنا ذا الزّمَانَا :: وَعَنَاهُمْ مِن شأنِهِ مَا عَنَانَا
وَتَوَلّوْا بِغُصّةٍ كُلّهُمْ مِنْــهُ :: وَإنْ سَرّ بَعْضَهُمْ أحْيَانَا
رُبّمَا تُحسِنُ الصّنيعَ لَيَالِيــه ::ِ وَلَكِنْ تُكَدّرُ الإحْسَانَا...

ما إن انتهى من القصيدة، حتى بدأ الأذان الرّقمي الموحّد لصلاة العشاء يتردّد في الآفاق.
كانت وكالات الأنباء الرّقمية تتناقل أنباء اقتراب الموجة الثانية من إعصار "مشرق" القادم من "الخليج اليابس" من إفريقيا، كانت لحظة مفعمة بالخوف والقلق من المستقبل، لكن خفّف من ذلك أن الهيئة الإفريقية لرصد آثار التّغيرات المناخية قرّرت منذ أشهر تطوير نظام "تحييد" الأعاصير الذي شهد نجاحات كبيرة في آسيا الجديدة، وهو ما يُعطي الأمل بتخفيف أضرار الإعصار إلى درجة كبيرة.

في هذه اللحظة المزدحمة بالقلق تُشير الشّريحة الرّقمية ليوسف إلى وصول رسالة مصوّرة على درجة عالية من الأهمية، رسالة مشتركة من مريم ومحمد وعادل، ما إن بدأ يوسف مشاهدة مريم في الفيديو حتى شعر بحالة نفسية غريبة.. كانت زوجة يوسف تشاهد فيلما وثائقيا خماسي الأبعاد عن الحرب العرقية التي شهدتها موريتانيا قبل أكثر من خمسمائة سنة، والتي أدّت رغم فظاعتاها، إلى ميلاد مجتمع متصالح مع هُويّته الاجتماعية الموحّدة.
كانت مريم تتحدّث بحماس كبير عن النّجاح الباهر لتيار المكان، وقدرته في إقناع كثير من الشباب الإفريقي في الثورة على الحياة الرقمية البائسة ... 
كانت تلك بداية ثورة ستغيّر وجه إفريقيا وربما العالم أجمع.